خزانة الأديب :
قراءة في بيت شعري .. الدكتور عزمي عبد البديع يكتب : أنْ تحْسِبَ الشحْمَ فِيمَن شحمُه ورمُ.
أنْ تحْسِبَ الشحْمَ فِيمَن شحمُه ورمُ.
رحم الله أبا الطيب المتنبّي فهو صوْت من الأصوات الشعرية الأبية لا تخطئه العين ولا تنكر وقع موسيقاه وأنغامه الأذن.
يعرفه النقاد والدارسون بنسقه الفكري وعنجهيته اللغوية وتصرفاته الإبداعية وكبريائه الجامح والأنا المستترة بين جوانحه والتي قد استبدت به حتى أهلكته.
ما كان ينشد الشعر في بلاط الأمير سيف الدولة إلا جالسا على خلاف ما جرت به عادة الشعراء في زمانه وكأنه بذلك يرى نفسه في مكانة لا تقل عن مكانة الأمير نفسه.
كان المتنبي نادرة زمانه في الحفظ والرواية كما كان شاعرا مجيدا عبقريا حكيما فيلسوفا فلا تكاد تقرأ له قصيدة تخلو من بيت يجري مجرى الأمثال والحكمة.
والحكمة في رؤوس أصحابها تستنبتها العقول وتصنعها القوّة المفكرة وصاحب العقل القوى يعيش في شقاء أبدي لا يهنأ بعيش ولا يلذّ بمقام!
وقدْ اشتدّ أبو الطيب وأطال في هذه القصيدة التي مطلعها:
"واحرّ قلباه" على الأمير النابه الهمام سيف الدولة وأكثر فيها الملام والخصام وغمزَ حاسديه ولمزهم وأرسل عليهم من صواعقه في مواطن كثيرة منها هذا البيت ذائع الصّيت:
يعرّض فيه بسيف الدولة حين جفاه وأبعده من مجلسه الأثير ويحثه على النظر الصحيح الذي يمكّن صاحبه من التمييز بين الحق والباطل والظلام والنور والشاعر والمتشاعر الذي يدّعي الشعر كمن يَحْسِب كلّ شحْم في بدن صاحبه صِحّةً وسلامة وعافيةً وهو في الحقيقة داء ومرض عضال يفتك به.أُعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةًأن تحسِبَ الشحْم فيمَن شحمه ورم
وبناء الكلام يجري على وتيرة التشبيه الضمني والتشببه الضمني هو الطريق الأبلغ في سياق المحاججة والإبلاغية وله موقع عظيم لا يخفى أثره لما يختزله من شُحْنات وجدانية قلقة ولما يضمره من الوحي الخفيّ والتعريض الذكيّ.
وإذْ نستجيب هنا لصوت أبي الطيب رحمه الله ونتدثر بشِعار هذه العبارة الرائعة الماتعة ونجريها في واقع حياتنا اليوم نجد أنفسنا في أشد الحاجة إليها وإلى العمل بمقتضاها.
(أنْ تَحسِب الشحْمَ فِيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ)تشبيه ضمنيّ عزيز يحتاج من المجتمع الذي يطمح إلى كسر الأغلال التي أثقلته ورفع الأوزار التي أهلكته أن يعيد قراءته حرفا حرفا وأن يفكك صوائته وصوامته بغية فهمه وتثويره.
وأن يجعل منها قذائف وصواعق يَرمي بها في وجوه الأدعياء الكذابين في كل نادٍ وجامعةٍ ومعهد ومدرسةٍ للقضاء على تلك العلل والأورام السرطانية التي تسري في مفاصل حياتنا العلمية والفكرية والثقافية والأدبية.