الدكتور عزمي عبد البديع : تقريب رسالة الإمام الرمّاني الموسومة بـ(النّكت في إعجاز القرآن) الجزء الثاني



بدأنا الحديث في ذكْر الوجوه السبعة التي يُردّ إليها الإعجاز عند الإمام الرمّاني وهي على الإجمال:
1- ترْك المعارضة مع توَفّر الدّواعِي وشِدّة الحاجة
 2- التحدّي للكافة
 3- الصَّرْفة
 4- البلاغة
 5- الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلَة
 6- نقض العادة
 7- قياسه بكل معجزة.
والمراد بقول الرمّاني: (ترْك المعارضَة مع توَفّر الدّواعِي وشِدّة الحاجة) أنّ العربَ عجزوا عن معارضة القرآن ومجاراة فصاحته وقد تحدّاهم وألحّ عليهم بكل سبيل واستنهض فيهم الهِمَم والعزائم وأثار فيهم النخوة والحَميّة.
ومعلوم بالدليل والبرهان أنّ العرب فيهم من الحميّة والأنَفَة ما ليس في غيرهم من الأمم إذْ كانوا أهل لسان يتكلّمون على الطبْع والسجيّة ويَلفُظُون الدرَّ بألسنتهم الحِداد من غير عنَت ولا مشقة.
وما ترك لهم القرآن عذرا يدعوهم إلى الكسل والقعود عن معارضته حتى قال لهم قوْلا فصْلا {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ } وفيه من التحدّي وإثارة النفوس ما فيه فلو وجدوا سبيلا إلى المعارضة ما اختاروا طريق الحرْب وإزهاق الأرواح فحمْلُهم السيف وإيثارهم الحرْب أكبر دليل على فشلهم.
وقوله (التحدّي للكافة) يعنى أنّه تحداهم مجتمعين إنسا وجنّا لقوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وهو متصل بالوجه الأول إذ لو كان لديهم القدْرة على الفعل ما سكتوا وفيهم الشعراء والخطباء والفصحاء والبلغاء.
وقوله (الصََرْفة) بفتح الصّاد وتسكين الراء بمعنى صَرْف الهِمَمِ عن المُعارضة وإن كانت لديهم القُدرة والمُكْنة فلما كانت الصّرْفة أمرا طارئا عنهم خارجا عن إرادتهم صحّ أن تكون وجها من وجوه الإعجاز.
والحقّ الذي أراه أن هذا الوجه لا يصحّ القوْل به ولا التعويل عليه ألْبتّة وإن قال به أكابر العلماء من رجال المعتزلة والشيعة.
وقد كتب الشريف المرتضى رسالة مطوّلة في شرح الإعجاز من جهة الصَّرْفة إلا أنّ كلامه فيها لا يرقى إلى القبول ولا يسوّغه العقل الرشيد لأنّ في الأخذ به إبطالا لآيات التحدّي وهي كثيرة وصريحة في القرآن الكريم فكيف يدعوهم إلى الإتيان بسورة من مثله وهو الذي بمشيئته صرَفهم؟!
وأمّا الإعجاز بـ(الأخبار الصادقة عن الأمور المُستقبلَة) فهو وصف صادق على جميع ما ورد في أخبار القرآن الكريم الدالة على الغيب والتي تحققت على النحو الذي أخبر به كقوله تعالى:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} وعدهم الله بالنصر والظّفَر فانتصروا كما أخبر.
وقوله تعالى في اليهود:
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ } وما زالوا حريصين كل الحرص على الحياة كما هو معلوم ومشاهد إلى يوم الناس هذا.
وقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } وقد تمت نعمة الله تعالى بالفتح والنصر لرسوله الكريم كما أخبر.
هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم فصحّ أن يكون حديث القرآن عن الغيب والمستقبل وجها عظيما من وجوه إعجازه لكن الإشكال الذي يَعرِض هنا هو عدم جريانه في جميع السور والآيات ويشترط في وجه الإعجاز أن يكون أمرا مستمرا في القرآن كله من أوله إلى آخره.
وقوله (نقْضُ العادة) فمعناه مباينة طريقة القرآن لأسلوب العرب وإن كان بنفس حروفهم وجنس كلامهم فهم قد عرفوا الشعر والسجْع والخطابة والكَهانة بينما أسلوب القرآن نمط فريد مباين لنمط كلامهم فصار حجة عليهم وشاهدا بعجزهم.
ويحضرني ما قاله المرحوم طه حسين في كتابه القيّم "من حديث الشعر والنثر" وقدْ قسّم الكلام إلى "شعر ونثر وقرآن" فجعل القرآن قسما قائما بذاته لأنه خارج عن معهود العرب وإن كان من نفس حروفهم.
وأمّا (قياسه بِكلّ معجزة) فمعناه أن إعجاز القرآن الكريم من جهة اللغة والفصاحة يضاهي سائر معجزات الأنبياء الحسّية كمعجزة نبيّ الله عيسى ومعجزة نبي الله موسى عليهما الصلاة والسلام لأنّ شرْط المعجزة هو إظهار العجْز وحسْب بغضّ النظر عن حجْم المعجزة.
ومعجزة خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلّم من جنس ما تفوّق فيه القوْم ونبغوا وهو أمر متعلّق بالفصاحة والبلاغة والمنازعة والإفحام فكان التحدي لهم من هذه الجهة التي نبغوا فيها دون شيء آخر حتى يصحّ التحدِّي ويتأكّد سبيل الإعجاز.... يُتبع إن شاء الله.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products