الدكتور عزمي عبد البديع : في ظلال رسالة الإمام الخطّابي الموسومة بـ(بيان إعجاز القرآن) الجزء الخامس

خزانة الأديب :

ذكرنا فيما مضى من البيان أنّ الخطّابي قد عرَض لبعض الشبهات التي أُثيرت حول القرآن الكريم من جهة فصاحة ألفاظه وطريقة نظمه وتأليفه وكثرة الحُذوفات التي يستغلق معها المعنى والتّكرار في أسلوبه وقِلّة الغريب وزيادةِ بعض الحروف من غير فائدة وتكرارِ القصة الواحدة في القرآن أكثر من مرّة وهذا كله من مزاعم المُبطلين.

وكان الإمام قويّ الحجة لا يتكلّم إلا بالدليل والمحاججة بالعقل والمنطق والبرهان الساطع لتضلّعه في اللغة واستحضاره الشعر العربيّ الذي به يقع الاستدلال ويحتجّ به للقرآن الكريم وفقه لسان العرب.

وأما دعواهم أن القرآن عبّر بألفاظ غيرها أبلغ منها كما في قوله تعالى عن إخوة يوسف {فأكله الذئب} والعرب تقول افترسه في السباع خاصة فقد ردّ الخطّابي عليهم الشبهة بالحجة اللغوية إذ (الفَرْسَ) في اللغة أصله دقّ العنق وإخوة يوسف ادعوا على الذئب أنه أكله أكلا وأتى على جميع أجزائه عضوا عضوا فلم يترك فيه مفصلا ولا عظْما لأنهم خافوا مطالبة أبيهم بأثر تبقّى من جسده يشهد بصحة ما زعموا فلم يصلح في هذا الوجه إلا ما جاء عليه لفظ القرآن الكريم.
كما أنّ الأكل شائع في الاستعمال العربيّ الفصيح وليس كما زعموا وقد نقل عن ابن السكّيت اللغوي المعروف قول العرب في هذا المعنى نفسه "أكل الذئب الشاة فما ترك منها تامورا -أي ما ترك منها قلبا ولا عظما ولا دما - ولبعض شعرائهم:
أبا خراشة أمّا أنتَ ذا نَفَرٍ --- فإنّ قوميَ لمْ تأكلْهم الضّبُعُ
وقد يتوسعون في الباب فيقولون في اللديغ أكلته الحيّات والهوامّ والعقارب وفي لغةٍ عن بعض الأَعْراب (أكَلُونِي البراغيثُ) فاستعاروا الأكل للقرْص وهو كثير في كلامهم.


وأما قوله تعالى {أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيئ يُراد} وقد زعموا أنّ (المشْي) أدنى الدرجات وكان الأولى والأبلغ أن يقول: (امضوا أو انطلقوا) ونحو ذلك وليس الحال كما ادّعوا لأنّ الآية في سياق الحديث عن وصف حال المشركين في ثباتهم على عبادة آلهتهم من دون الله وعدم انزعاجهم لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك عبادتها والتشنيع عليهم بسببها.
وهم إنما قصدوا أنهم ملازمون لسجيتهم المعهودة لا يصرفهم عن موقفهم صارف فكان يوصي بعضُهم بعضا أن امشوا على سجيتكم ولا تُعوّلوا على كلام محمّد ولو جاء القرآن بلفظ (امضوا أو انطلقوا أو سارعوا) ونحو ذلك لكان فيه انزعاج لهم والقوْم لم يقصدوا ذلك ولم يريدوه فثبت فصاحة لفظ القرآن الكريم.

وأمّا قوله تعالى {هلكَ عنّي سُلطانية} وقد زعموا أن الأولى والأفصح أن يقول (ذهب أو زال) ونحوهما لأنّ الهلاك يكون للأعيان والذوات والسلطان معنى من المعاني لا يصح فيه لفظ (هلَك) لكنّ الخطّابي ردّ باطلهم بأنّ لفظ الاستعارة (هلك) أبلغ من لفظ الحقيقة.

والقرآن الكريم ينتقل من الحقيقة إلى المجاز حين لا يفي لفظ الحقيقة بالمراد ولو قال (ذهب) ونحوه لكان المعنى مختلا فإن الذهاب يكون مظنّة العودة والرجوع وهنا الحديث عن زوال المُلْك والسلطان في الآخرة فهو زوال لا رجوع بعده فناسب المعنى لفظ الاستعارة لأنه أقوى في تصوير المعنى المراد.

وهذا كقوله تعالى {وآية لهم الليل نسلخُ منه النهار} فعبّر بالسلْخ على سبيل الاستعارة لأنّ لفظ الاستعارة أقوى من لفظ الحقيقة كالذي في (نخرج) ونحوذلك لما في لفظ المجاز من الإعجاز والتصوير.

وكقوله تعالى {فاصدعْ بما تُؤمر} والصدْع مستعار من صدْع الزّجاج وهو أفصح من لفظ الحقيقة الذي هو (أبلغْ) ونحوه لأن المعنى أن يكون بلاغه صلى الله عليه وسلم على نحو من التأثير والنفاذ بلاغا واصلا إلى القلوب كتأثير الصدْع في الزجاج ونحو ذلك.

وأمّا قوله تعالى {والذين هم للزكاة فاعلون} وكان الأولى -في زعمهم- أن يقول (يؤدون أو يعطون) ونحوهما فإن لفظ القرآن أبلغ لأنه أراد أن تكون الزكاة فعلا تاما لهم يزاولونه طوال حياتهم وهذا المعنى لا يستفاد على وجه الكمال إلا بهذه العبارة.

وأمّا ما ادعوه من زيادة بعض الحروف من غير معنى كزيادة الباء في قوله تعالى {ومنْ يُردْ فيه بإلحاد بظلم} فقد ردّ عليهم الخطّابي بأنّ زيادة الحرف في الكلام يقع في كلام العرب المشهود لهم بالفصاحة بخلاف المتأخرين والمحدثين.
وقد نُقل عن أبي عمرو بن العلاء - وهو الحجة في اللغة - قوله "اللسان الذي نزل به القرآن وتكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عربية أخرى عن كلامنا هذا" انتهى.

لهذا صار العلماء لا يحتجون بشعر المحدثين كبشّار ودِعبل الخزاعي ونحوهما ويرجعون في الاستشهاد إلى شعراء الجاهلية وإلى المخضرمين منهم وإلى الطبقة الثالثة التي أدركت المخضرمين وذلك لعلمهم بما دخل الكلام في الزمن المتأخّر من الخلل والضعف والاستحالة.

والعرب قد تزيد بعض الحروف وتلغي معناها لإرادة التوكيد والإبلاغ وبهذا نزل القرآن الكريم كزيادة حرف "الباء" في قوله (بإلحاد بظلم) وكزيادة حرف "لا" في قوله تعالى {لا أقسم بهذا البلد} والمعنى أقسم. وللحديث بقية إن شاء الله

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products