الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (28)

خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (28) من قلب قرية دسيا


عندما رأى أحد مرضى السكر يضع حبوبًا صغيرة في كوب الشاي لتحليته دون سكر لمعت في عينه الفكرة مباشرة، وفي لمح البصر دار في مخيلته السيناريو كاملا من بدايته لنهايته، والنتيجة تقريبًا مضمونة، لم يكن هناك مسرح أنسب من مولد إبراهيم الدسوقي، فمؤكد أن جميع روَّاده من الباحثين عن المعجزات المشتاقين لرؤية الكرامات.
اختار مقهى بعناية وقعد على طاولة في أحد الأركان، بحيث يرى أمَامَهُ ولا يُرَى من خلفه، وجاءه القهوجي:
- تشرب إيه..؟
- شاي يا ابني بس من غير أي سكر.
بمجرد أن استدار القهوجي بعد أن وضع الكوب كان شعبان عيسى قد وضع فيه عددًا من تلك الحبوب السكرية دون أن يلاحظه أحد، ثم شرب نصف الكوب وترك نصفه، ونادى على القهوجي، ثم قال وهو يشير إلى مقام الشيخ إبراهيم الدسوقي:
(من يوم ما جالي في المنام وقَبّلت إيديه وأنا شفايفي أول ما تلمس الشاي بيصير زي العسل... شِيله يا ابني مش حقدر أشربه عسل كده...).
حمل القهوجي الكوب وهو ينظر إلى مقام الشيخ مبتسما، ودفعه فضوله إلى أن يتذوق الشاي فإذا به شديد الحلاوة... يا لها من كرامة شاهدها بعينيه وتذوقها بشفتيه، فأخبر صاحب المقهى بما رآه، وتذوق هو الآخر ما تبقى في الكوب من الشاي المعجزة، فأصَرَّ على أن يصحب شعبان عيسى إلى بيته ليرقيه ويبارك كل من فيه، تمنَّع شعبان كثيرا ولكن الرجل ألحَّ عليه وكاد أن يقبل قدميه.
كان شعبان بارعًا في إقناع الآخرين به، فكل أحواله وأفعاله وأقواله لا تدل إلا على أنه من الصالحين المقربين المباركين... أقام عند صاحب المقهى بضعة أيام، وصار يتردد إليه كأنه وحد من أسرته.
وفي يوم أرادت زوجة صاحب المقهى أن تشتري شيئًا من الذهب، فطلب من الشيخ شعبان أن يذهب معها حتى لا يخدعها البائعون، وأعطاه المال، انطلق شعبان مع السيدة، وقال لها: إن اختيار المحل المناسب ليس أمرًا بسيطا، وعليها أن تنتظره أمام كل محل، فيدخل هو أوَّلا فإذا ارتاحت نفسه لمن فيه نادى عليها واشتروا منه، وإذا انقبضت نفسه خرج إليها وذهبا لغيره، وبالفعل دخل محلا وخرج يستعيذ بالله من الشيطان، وأكمل معها التجوال، فدخل محلا آخر وخرج يستعيذ، وهكذا... إلى أن دخل محلًّا ولم يخرج. انتظرته السيدة وطال انتظارها، فلما مَلَّتْ أطلت في المحل، فوجدت له بابًا آخر مطلًّا على شارع جانبي... (لكن الشاي كان زي العسل).
انتشرت أخبار شعبان عيسى في المركز باعتباره الرجل الذي يعيث في الأرض بالطول والعرض ولا يقدر عليه أحد، وكان أن انضم إلى قسم الشرطة ضابط قوي الشكيمة شديد العزيمة، ونمت إليه أخبار شعبان، فعزم على أن يقبض عليه، ويودعه السجن، وأخبر الخفراء على مدار المركز كله وخاصة قريتنا أن من أمسك به فسوف تكون له مكافأة وتكريم من الشرطة.
علم شعبان بهذا الوعيد، وعلم أنه أُحيط به من كل جانب، ولو حدث هذا مع سواه لهرب هائما في بلاد الله، ولم يعد إلى المركز كله أبدًا، ولكن مع شعبان عيسى الأمر هين وبسيط، ما هو إلا شهر واحد، ودخل القرية عزيزًا مرفوع الرأس... (أيْ والله العظيم).
كان لذلك الضابط أب من شيوخ العرب في إحدى قرى حوش عيسى، وله مَضْيَفَة عظيمة أمامها حديقة بديعة... وسرعان ما توصل شعبان إليه، وعرف كل شيء عنه، فسافر إليه وأقام بالقرب من مضيفته، ثم بدأ يرعى حديقتها متطوعا، فلفت نظر شيخ العرب، فسأله عن هويته، فقال إنه عابر سبيل يبحث عن عمل يُغْنيه ومكان يؤويه، وكان يبدي من حسن الخصال والأفعال ما جعل شيخ العرب يحبه ويقربه إليه، فجعل إقامته في المضيفة يرعى حديقتها في الصباح، ويكون من خلصائه وجلسائه في المساء، وعندما استوثق شعبان من مكانته عند الشيخ صارحه بمبتغاه، بأن له أعداء في بلده يريدون به سوءا فأوغروا صدر ابنه الضابط عليه، وطلب منه خطابا يوصيه بألا يؤذيه فقد اشتاق لرؤية أهله وذويه. لم يتردد شيخ القبيلة فكتب لابنه في الحال: (الشيخ شعبان عيسي من أصدقائي وخلصائي، وهو في حمايتي، من آذاه فقد آذاني، فإن أتاك فأكرمه ولا تمسه بسوء، ولا تسمع لقول الوشاة فيه. أبوك....)، وكان لشيخ القبيلة خاتم فختم به الخطاب.
حمل شعبان الخطاب وأسرع إلى قسم الشرطة، وما إن رآه المخبرون إلا تبادروا بتوصيله للضابط، فدفع الخطاب إليه، قرأه الضابط فضرب أخماسا في أسداس، ظل لدقيقة كاملة يجيل بصره بين الخطاب ووجه شعبان بغيظ شديد، ثم قال من بين أسنانه: (ا تْ فَ ضَّ لْ رَ وَّ حْ)... وبينما شعبان خارج كان صوت الضابط مجلجلا من خلفه لمن في القسم: محدش له دعوة بيه.
دخل شعبان القرية كأنه خائف يترقب، فأمسك به أحد الخفراء، وحبسه في حجرة التليفون. فأخذ شعبان يتوسل إليه بأن يتركه لوجه الله، فأبى الخفير، فذكَّره شعبان بأنه ابن قريته، وله حق جيرته، فأبى وأغلظ له القول.
- طيب يعني حتعمل فيَّ إيه..؟
- حتصل حالا بالباشا ييجي ياخدك.
- ما بلاش أحسن خليك طيب.
- اخرس يا مجرم...
رفع الخفير سماعة الهاتف، وكأنه على وشك إحراز بطولة كأس مصر من مباراة واحدة، وبهدف واحد سريع، حيث جاءته الكرة تتهادى كأنها محبوبة على ميعاد وهو أمام المرمى، فما عليه إلا أن يركلها بخفة ورشاقة: (أيوه يا باشا أنا مسكت شعبان عيسى وحابسه عندي هنا في التليفونة).
كان غضب الضابط لا يزال حبيسًا في صدره، لم يستطع أن يخرجه في شعبان فقد حال بينهما خطاب أبيه، فأخرجه كله في ذلك الخفير المسكين: (سيبه يا....... دا لسه ماشي من عندي دلوقت).
نظر الخفير إلى شعبان والعرق يتصبب منه، كلاعب وقع في منطقة المرمى، فقام وهو ينظر إلى الحَكَم مبتهجا، منتظرا أن يمنحه ضربة جزاء، فإذا بالحَكَم يرفع في وجهه البطاقة الحمراء... لم يستطع الخفير أن ينبس بكلمة، ولكن شعبان تكلم:
ما قلت لك بلاش أحسن وخليك طيب.. لازم يعني نجيب الكلام لنفسنا..!!

------------
ولعل للحديث بقية...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products