الدكتور خالد فهمي : كأن القرآن يتنزل من جديد (الحلقة الخامسة عشر)

خزانة الأديب :




كأن القرآن يتنزل من جديد (موسم 1440/2019 )

يقول الغفار الحليم:
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92).
هذه آية دستور في إدارة المراحل الانتقالية في الأمة.
وهي آية منهج في التسامي الإنساني على خلفية التزكية وطلب الآخرة.
وهي آية منهج في رعاية حسن العهد وتثمير المشترك الإنساني.
جاءت الآية لتحل موقفا عصيبا توتر فيه الجو توترا قويا.
الآية تصور حالة قفزت فيها محنة السنين والسجن والتيه والبعاد عن الأهل.
وتواجه المكلوم المحزون المأزوم مع الظالم المعتدي المتآمر الجاني.
جاءت الآية وخيالات الانتقام والحرمان والتشفي هي المظنون الغالب على أذهان من طوحت بهم الأيام طلبا للميرة والطعام.
لكن ذلك لم يكن.
وغلبت داعية الذكريات القديمة من بعض رعاية الإخوة القديمة للصغير الحبيب.
وغلبت رابطة الأخوة والدم.
وانتصر قانون: لا يكون الدم ماء.
وغلبت داعية الحضن الواحد. والأب الواحد. والأرومة الواحدة.
وغلبت داعية النشأة الواحدة. والميراث المشترك.
لا تثريب عليكم :آية منهج في التسامح والتجاوز والانتصار للتأنس والانتصار لداعية الرحمة واستلهام أسماء الله الحسنى الرحمن الرحيم الغفار الغافر الغفور السلام.
لا تثريب عليكم : طرد لخطاب الانتقام.
وحصار لخطاب التشفي.
واغتيال لأخلاق استذلال الضعيف.
والترفع عن إذلال المنكسر .
والاستجابة لإكرام عزيز قوم ذلته صروف الزمان. وحمد عملي لله الذي مكن المظلوم ممن ظلمه بالعفو عنه.
واستبقاء لرابطة الإخو
وحفظ الله في الأب النبيل ذي المروءة في بنيه لأنهم بنوه وإن أخطئوا.
ولا تثريب عليكم :درس عبقري في أن الحكمة تقتضي في زمان الانتقال -التجاوز عن أخطاء الماضي
وعدم التعيير بما كان ومضى وعدم التوبيخ على ما صدر زمن الجهالة والصبوة. وعدم التقبيح على أفعال زمان المحنة.
لا تثريب عليكم :درس عبقري يعالن بأنه من الحكمة عدم الخوض في آلام الماضي مادام جناة الأمس قد اعترفوا بذنوبهم واعتذروا بعدما عرفوا.
يغفر الله لكم : دعاء شفاف يناسب حال القادمين الذين تكشف ماضيهم أمام قاضيهم .
ودعاء غير مؤجل.
لا تثريب عليكم : دعاء يكشف القلوب الخضراء للشباب الذين جبلهم الرب على المنح في مواجهة قلوب لا تمنح بسهولة ولا تتغير بسهولة ولا تتراجع بسهولة.
يغفر : دعاء صادر عن شاب.
في مواجهة (سأستغفر ) بوصفه وعدا صادر عن شيخ كبير.
الآية تعالن في هذا الدعاء بأن الأمة التي لا تمكن لشبابها مغبونة تؤخر الاصطفاف وتؤخر السلم المجتمعي وتؤخر عافية المجتمع.
وتأمل حركة الضمير في هذين الجزأين من الآية يكشف عن إيثار لضمير الخطاب ( كم )في (عليكم /لكم ): وهو يكشف عن صدق في مشاعر الرحمة التي أبداها يوسف نحو إخوته. ذلك أن الخطاب دليل إقبال لا إعراض ودليل قبول لا نفور. ودليل صفاء لا جفاء.
و في تنوع الوقف في اليوم معان مترافدة. إن كان الوقف على اليوم فإن خطاب العفو وعدم التثريب رهن بالتمكين. وإن كان الوقف على (عليكم )والاستئناف باليوم فإن الغفران كان أمر الله ووحيه إلى يوسف في المسألة.
ثم يأتي الختام الشريف الشفيف : وهو أرحم الراحمين -داعما لسياسات الرحمة والرفق بمن تحول ليقع في مناطق الضعف الإنساني.
الآية تقول إن الدم لا يصير ماء.
وتقول إن الحضارة تؤثر التراحم والتعايش.
وتقول إن من تمام رحمة الله والرضا عن الله ترك الانتقام له وتغليب العفو إيثارا لما عنده وشكرا على نعمه.

الأستاذ الدكتور خالد فهمي
أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة المنوفية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products