كأن القرآن يتنزل من جديد (موسم 1440/2019 )
يقول العليم الخبير :هذا موضع عزيز فيما يرشد إليه من هدي.
يَا بَنِيَّ
اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيه
ِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ
إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87).
وما يحمله من معرفة.
الآية تفتتح نظمها بنداء من أب بر ينهض بواجب الأبوة تجاه أبناء عقوه في ولده الأثير.
والنداء في بنيته النحوية المؤسسة على التضايف تلوذ بالعطف والرفق سبيلا لاستثمار بقية الخير وبقية الفطرة التي لا تبرح قلوب الإخوة ولاسيما إذا كانت الأصلاب التي قذفتها نقية طاهرة.
يا بني :استنهاض بقايا الرحمة في نفوس الأبناء نحو أبيهم المكلوم الحزين.
يا بني : تحريك لمياه الخير في نفوس غلبها الشيطان في لحظة قديمة لكن العنصر أصيل.
يا بني : إعانة من والد لولده كيما يصححوا آثار ما فرط منهم قديما في التفريط في أخيهم.
يا بني : قيام بالطاعة لله في نفر عصوا الله في الوالد والأخ الصغير.
يا بني :درس عبقري في أن المعصية لا تمنع من منح البنوة بر الأبوة تعليما ورفقا وتوجيها.
وذلك كله مدعوم بما يسكن بنية المنادى المضاف إلى ياء النفس.
ومدعوم كذلك بما سكن بنية الفعل (تحسسوا)من دلالات الخوف عليهم من انكشاف أمرهم في رحلة البحث عن الأخوين المفقودين ،ذلك أن صيغة تفعل تتحرك بحمولات التلطف والتمهل.
(اذهبوا فتحسسوا ):جزء الآية هذا يعيد الاعتبار لخبرة الشيوخ.
ويعيد الاعتبار لعزم أجيال الشباب.
ويعيد الاعتبار للبحث الميداني.
ويعيد الاعتبار لفحص المعلومات وأهميتها وجدوى تحليلها.
اذهبوا فتحسسوا : نص ملهم في استثمار حركة التجارة توصلا إلى ما بعدها من معلومات.
اذهبوا فتحسسوا :دعوة لترقية أنظمة الاستخبارات على أسس من جمع المواد وفحصها وجمع المعلومات وتحليلها والتنبه لجغرافيات التقدم ودراستها.
اذهبوا فتحسسوا : درس عبقري في الاعتراف والتقدير بملكات الشباب.
ودرس عبقري في تواضع الشيوخ.
ودرس عبقري في تقدير الواقع.
ودرس عبقري في جدوى التعاون مع وجود الاختلاف.
ودرس عبقري في أن الخطأ القديم غير مانع من التعايش.
اذهبوا فتحسسوا :درس في التمسك بالأمل مادام الظن في النجاة قائما.
ودرس في أن الظن لا يهزمه إلا اليقين.
ونجاة الأخوين ظن.
ولكن اليقين في هلاكهما غائب، وهو ما دعا الوالد العالم أن يتحرك بقاعدة الأمل استنقاذا لنفسه من بيت الحزن واستنقاذا للمفقودين من جو الغربة.
واستنقاذا للأخوة العصاة من تاريخ المعصية الضاغط فتحا لباب التوبة والميلاد الجديد.
وتأتي جملة (ولا تيأسوا من روح الله )؛تشجيعا ودعما وفتحا لأبواب الأمل.
روح الله؛ رجاء.
روح الله :أمل.
روح الله : فرج.
روح الله :رحمة.
روح الله : غفران وعفو وتجاوز.
روح الله :وقود كل ميلاد جديد للإنسان الذي قسا عليه ماضيه.
ثم يأتي الختام العجيب (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ):ليحسم اللجاج المتوقع.
ويضع نقطة الحسم لمن صح منه العزم على افتتاح تاريخه النقي من جديد.
ختام الآية :جملة من ترسانة مؤكدات ليقطع آثار الثقة الواهنة من آثار المعصية.
وكذلك كل معصية تورث الوهن في النفس التي تحتفظ ببقية من خير.
وتلوذ الآية بتقنية التكرار لتركيب (روح الله ).
والتكرار هنا سبيل داعمة.
وسبيل مخففة.
وسبيل تغسل النفس وتردها إلى تأنسها .
التكرار لهذا التركيب حمل على استيلاد الرحمة من النفس الإنسانية بمواجهتها بالرحمة الربانية.
التكرار لهذا التركيب درس في أن الرحمة تلد الرحمة. وأن فتح باب الرجاء يعيد للإنسانية المحبطة والمكتئبة توازنها ويستحييها من جديد .
والتكرار لهذا التركيب يسهم في ترسيخ صناعة جليلة جدا ملخصها :أن العلاج المعرفي يستنقذ النفوس المرهقة بالأخطاء.
وأن مواجهة المسرفين على أنفسهم بالرفق إحياء جديد لهم.واستثمار جديد لأرواحهم.
الأستاذ الدكتور خالد فهمي
أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة المنوفية