خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (46) من قلب قرية دسيا
من المفارقات العجيبة في قريتي أن اسمها لدى دواوين الحكومة (دسيا الكنائس) وليست فيها كنيسة ولا مسيحي واحد، وهي إجمالا صغيرة المساحة لم تكن تتجاوز حتى منتصف الثمانينيات مئةَ منزل، وربما تضاعف هذا العدد في وقتنا الحاضر 2019، ورغم صِغَرِ مساحتها فإنها من أقدم القرى لا في مصر وحدها بل على كوكب الأرض، ولا تزال بعثات الآثار تحفر في مواضع منها، وعثروا بالفعل على أشياء مطمورة في ترابها تعود إلى العصر الفرعوني منها تمثال لا يتجاوز طوله 10 سم لإيزيس وهي ترضع حورس... وغير ذلك من أوانٍ فخارية وعملات معدنية تعود إلى عصور مختلفة، وهذا يدل على أن قريتي كانت على حجمها وهيئتها الصغيرة منذ تلك العصور البعيدة.
أقيمت العديد من القرى حولها على مساحات أكبر، ولا تزال دسيا بحجمها الصغير مركز الدائرة، وحاملة جميع الأسماء، فالعُمْدَانِيَّة التي تتبعها عدة قرى حولها هي (عمدانية دِسْيَا)، والطريق الذي يربط بين مدينتي المحمودية ودسوق مارًّا على العديد من القرى ومتخللا بعضها على الرغم من أنَّه يمرُّ على دسيا على بعد مسافة نصف كيلو لا يحمل سوى اسم دسيا فاسمه (طريق دسيا) وعندما أقيمت أوَّل وحدة صحية تخدم عشرات القرى بعد ثورة يوليو أقيمت في دسيا دون سواها وإلى اليوم يطلق عليها: (مستوصف دِسْيَا).
وكان يلفت نظري منذ الطفولة الأولى أمر عجيب، وهو أن جميع القرى حول قريتي تضاف إليها غالبا في الكلام كلمة (عِزْبَة) فيُقال: عزبة كذا... وعزبة كذا... إلا دِسْيَا لا يقال قبلها عزبة أبدًا ولا يليق... وكأنَّ للتاريخ مهابةً ووقارًا.
ليست المفارقة التي ذكرتها في البداية هي عدم وجود مسيحيين ولا كنائس في (دسيا الكنايس) وإنما في أمر آخر، لا يخطر ببال... وهو أنه عندما كان يُعْرَضُ على الخريجين من الأطباء الشباب العمل في إحدى القرى القاصية كتكليف لمدة محددة، وتُعْرَض عليهم أسماء القُرَى فكان المسيحيون منهم يختارون (دسيا الكنايس) دون تردد، ظانين أنهم سيقضون مدتهم بين بني عقيدتهم، وأن الكنائس ستحيطهم من كل جانب!! وعندما يأتون لا يجدون أثرًا لصليب... فهل كانوا يندمون..؟
ما إن يستقر الطبيب (المسيحي طبعًا) أسبوعًا في السكن المخصص له الملحق بالوحدة الصحيّة، إلا ويصبح صديقًا لجميع شباب دسيا، وواحدًا من أبنائها الأعزَّاء، حتى إنه لم يكن يغادرها بعد انتهاء مدة التكليف، وأحيانا يلحُّ في التجديد لئلا يغادر أهلا له ألِفَهُمْ وألِفُوه، وكثير منهم بعد المغادرة كان يعاود التردد على دِسْيَا زائرًا، وتستمر صداقته بأهل القرية دون انقطاع.
ما كان أروع تلك السهرات في ليالي الشتاء الطويلة، عندما يجتمع شباب القرية من المتعلمين وغير المتعلمين في مندرة أحدهم وينضم إليهم الطبيب الوحيد في القرية، ويدور السمر... ولا أنسى تلك السهرة التي جمعت بعضهم حول الطبيب ومن بينهم (محمود أحمد الرامخ) وقد ورث من أبيه بعض دعابته وردوده السَّاخرة... وإذا بأحد شباب القرية يقول للطبيب:
- عندي سؤال يا دكتور.
- خير يا علي؟
- أنا مرَّة أكلت أكلة كان فيها أصناف ما تتاكلش مع بعضها، لكن بعدها حسيت إني زي الحصان، فهل فيه سر في الأصناف دي لما تجتمع.
- طيِّب قل لي إيه الأصناف دي؟
كان السائل تُغِيظُه كلمة (سَمَك) واشتهر بين شباب البلد بأن هذه الكلمة تضايقه، فإذا قال له أحدهم يا (سَمَك) قد يضربه أو يجري وراءه، وكان هذا من عادات أهل القرى وربما إلى اليوم، أن يشتهر أحدهم بكلمة تضايقه. وكأنَّ السَّائل نسي عادته هذه وهو يعدد أصناف الطعام فقال في آخرها: و(سَمَك). ثم سكت واحمَرَّ وَجْهُه، وكتم الجميع ضحكهم... والطبيب واحد من أهل البلد وقد أدرك ما يدور في النفوس، فقال له بغرضٍ لا يخفى:
- عِيدْ كِدَه الأصناف اللي قلتها عشان أرَكِّز معاك.
فأعاد الأصناف جميعها وطبعا لم يذكر السمك في هذه المرة، وإذا بمحمود ابن خالي أحمد الرامخ يقول له:
- نَسِيت حاجَة يا علي.
- حاجة إيه يا محمود؟ (بغضب)
- نسيت الـ (وحرَّكَ يَدَهُ كمن يقلِّد حركة السَّمك في الماء)... ودِّيتُه فين؟
انفجرَ الجميع ضَحِكًا، وانفجر عليٌّ غضبًا، وهَدَّأه الجميع بعد جهد جهيد وهم يغالبون الضَّحِك، وما إن تهدأ الأمور ويعاودون الحديث إلا أعاد محمود السؤال لعليٍّ: فين الـ (ويحرِّكُ يَدَهُ كمن يقلِّد حركة السَّمك في الماء)... وديته فين..؟! فتقوم القيامة من جديد...
كانت أصواتهم تملأ الشارع كله، فمشى إليهم خالي أحمد الرامخ، ودخل عليهم وقد هدأوا جميعًا، وما إن رآه السائل إلا بادره شاكيًا:
- يا خالي أحمد حُوش محمود ابنك عني أحسن والله العظيم ما حا يحصل خير.
- ما له محمود عمل إيه يا عَلي؟
- أنا بتكلم مع الدكتور وهو بيتدخل بيننا.
وكأنَّ عَلِيًّا استجار من الرمضاء بالنار، فإذا بخالي أحمد يتوجه إلى محمود مُعَنِّفًا:
- ليه كده يا محمود؟ عيب يا ابني إنك تتدخل ما بين حدّ، دا المثل بيقول: يا داخل بين السمكة وقشرتها ما ينوبك غير زفارتها.
فقامت القيامة من جديد...
في صباح أحد الأيام أحسَّ خالي أحمد بإرهاق بسيط، فلزم فراشه، وكان لديهم بين ما يقتنون من المواشي حَمَلٌ صغير، ورغم أن الطعام والماء لا يُرفَعَان من أمَامِه لم يكن ذلك الحَمَلُ في ذلك اليوم يكفُّ عن الحركة، حتى إنه كان يدخل على خالي أحمد حجرته، ثم ينظر إليه رافعًا صوته (ماااااااااء) كأنه يريد أن يقول شيئًا.
أخرجته زوجة خالي أكثر من مرة ولكنه كان يعود، فقررت أن تنهي هذا الإزعاج لتوفر الهدوء لخالي أحمد، وبينما الحمل بالقرب من فراش خالي أحمد جرَّته إلى خارج الحجرة للمرة الأخيرة وهي تقول وكأنَّ الحمل يفهم قولها:
(أنت سايب الأكل في الزريبة وعامل دوشة ليه، والله لربطاك)... ثم عادت، فسألها خالي أحمد:
- أنت ربطتِ الحُولِي فين..؟
- في الزريبة يا أخويا يعني حَرْبُطُه فين..؟
- أيوه فين في الزريبة..؟
- وهِيَّ تِفْرِقْ حَاجَة...!! في الزريبة وخلاص.
- تلاقيكي دقيتي وتد في نص الزريبة وربطتيه فيه..!!
- أيوه يا أخويا وفيها إيه يعني..؟
- يا ولية يا عجوزة... بعد العُمْرِ دَا كلّه مش عارفة تربطي الحولي إزاي..؟! حَيْلِفّ حوالين الوتد ويخنق نفسه؛ الحُولِي يِتْرَبَطْ جنب الحيطة عشان ما يخنقش نفسه... روحي الحقيه قبل ما يموت.
خرجت زوجة خالي وهي شبه غير مقتنعة، ولكنها تفاجأت بما رأت، وكأنَّ خالي أحمد كان يرى بقلبه ما رأته بعينيها، لقد ظل الحمل يدور حول الوتد حتى خنق نفسه تمامًا، وسقطَ منهكًا يكاد يلفظ أنفاسه... وفي سرعة فكت الحبل من حول رقبته، فاستعاد عافيته ووقف منتفضًا، فنقلته بجانب الحائط.
لم تكن زوجة خالي تعلم أنها سحبت ذلك الحَمَل لتوفر الهدوء لضيوف لا تراهم عين بشر، إنهم ملائكة أكرَمون، فما إن عادت إلى الحجرة لم تجد خالي أحمد.
