الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (45)

خزانة الأديب :
 الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
 الحلقة (45) من قلب قرية دسيا 


لم يكن الأستاذ مسعد رمضان يلقي إلينا دروس اللغة العربية والتربية الدينية إلقاء في المرحلة الإعدادية، وإنما كان ذلك الأستاذ العظيم يربطها بالممارسات الحياتية، لا أزال أتذكر كثيرًا من كلامه حرفيًّا، وما بالكم بأبناء أربعةَ عشرَ عامًا عندما يستمعون إلى مثل هذا الموقف منه..؟! قال لنا أستاذي ذات حصة: مكثتُ حينًا من حياتي العملية أستقلُّ القطار يوميًّا ذهابًا وإيابًا، وكانت المحطات مزدحمة، والقطار أكثر ازدحامًا، وفي أغلب الأيام لم أكن أدرك شراء تذكرة في المحطة لطول الطابور وقدوم القطار، ونظرًا لقصر المسافة وتكدُّس القطار، لم يكن المحصِّل يُحَصِّلُ شيئًا، فكنت أذهب إلى الشباك في محطة الوصول وأشتري تذكرة ثم أُمزقها وألقيها في القمامة، وأنا أرى رفاقي من الركاب لا يفعلون ذلك مطلقًا، لكني لم أكن أتخيل أن أفعل مثلهم، إلا في يوم واحد تكاسلت وأرجأت شراء التذكرة، ولكني ظللت خائفًا متوجسًا طول الطريق إلى بيتي، وكأنني مجرم يتوارى من مراقبة ضميره، وينتظر العقوبة... وصلت بيتي ونمت، واستيقظت على صوت زوجتي تستغيث؛ فقد وقع ابني ابن ثلاث سنوات من على سلم العمارة، وأسرعت به إلى الطبيب وقد نجا من ارتجاج في المخ بلطف الله تعالى... كنت أجري بابني لأسعفه وفي ذهني جريمتي ماثلة أمام عينيَّ، وأنا لا أشك مطلقًا أنها (قرصة ودن) كي لا أكررها... في اليوم التالي في محطة الوصول اشتريت تذكرتين وليس واحدة... واعتذرت لنفسي.
لم يكن الأستاذ أحمد عامر في المرحلة الثانوية يكتفي بالمنهج المقرر، وكثيرًا ما كان يذكر أبياتًا من عيون الشعر العربي خاصة للمتنبي في أثناء شرحه حتى في حصص التربية الدينية، لا أزال أذكر وهو يشرح حصة تربية دينية وأنا في الأول الثانوي، تقريبًا حول قول الله تعالى (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون...) فإذا به يقول:
فمسَّاهُمْ وبُسْطُهُمُ حريرٌ ** وصبَّحَهُمْ وبُسْطُهُمُ تُرَابُ
وَمَنْ في كَفِّهِ مِنْهُمْ قَنَاةٌ ** كَمَنْ في كَفِّهِ مِنْهُمْ خِضَابُ
تَرَفَّقْ أيُّهَا الموْلَى عَلَيْهِمْ ** فَإنَّ الرِّفْقَ بَالجَانِي عِتَابُ
مما حدَا بي أن أبحث عن تلكَ الأبيات للمتنبي وأقرأ القصيدة كاملة... أما الأستاذ أحمد زايد فقد درَّس لي في الصفين الثاني والثالث الثانويين، وكانت له طريقة رائعة، إذ كان يطلب مني وبعض رفاقي أن نبدأ نحن بشرح الدرس، ثم يعلق هو على الشرح مُصَوِّبًا أو مُضِيفًا، فجعلني أذهب إلى المدرسة وأنا مستعد للشرح لا للتلقي فقط.
كان لهذين الأستاذين الفضل في توثيق محبتي للغة العربية، حتى إنني كتبت فيهما قصيدة وألقيتها في الإذاعة المدرسية، كان مطلعها:
يَا أحْمَدَيْنِ عَلَى التَّقْوَى قَدِ الْتَقِيَا ** يَا مَنْبَعَ العِلْمِ وَالأخْلَاقِ وَالكَرَمِ
فَأحْمَدٌ عَامِرٌ تَقْوَى وَمَعْرِفَةً ** وَأحْمَدٌ زَايِدُ الأخْلَاقِ وَالشِّيَمِ
عرفت بعد ذلك أنها على بحر البسيط...
تحمست أسرتي لأن أدخل كلية الشرطة، رغبة في أن يكون في العائلة ضابط، وبالفعل اشترى أخي ملف كلية الشرطة، وبدأ يُحَضِّر ما يلزم تيسير دخولي، وجَهَّزَ كلَّ شيء، وملأنا الملف المرهق في كتابته، وفي الصباح ينبغي أن أسافر معه إلى القاهرة للتقديم...
كان لي قريب وصهر هو زوج أختي وابن خال والدي (أحمد الرامخ)، وكان أزهريا (لغة عربية قسم صحافة) وكان قد حج قبل أن يتزوج فنقول له (الحاج عبد الغفار) أمسك ملف كلية الشرطة، ثم نظر إليَّ وسألني:
- أنت ناوي تبطل كتابة شعر..؟
- لا.
- طيب ممكن تقول كذا لواحد مجرم (كلمة قبيحة)..؟
- طبعا لا.
- طيب ممكن تتعامل مع مجرم فتضربه بالشلوت.
- لا طبعًا.
- إمال رايح شرطة تعمل إيه..؟ أبشرك ستكون أفشل ضابط في مصر.
كان كلامه مقنعا لي ولأخوتي، فاستأذننا في أن يتشرف بتمزيق الملف، فوافقنا، فإذا به يمزقه تمزيقًا، ويقول لي: ادخل كلية دار العلوم. لم أكن أعرف ما تدرِّسُه كلية دار العلوم، فقلت له: (ودي بتدرِّس إيه..؟).
- بتدرس كل الحاجات اللي أنت بتحبها...
بعد أن تخرجت في دار العلوم، وبينما أنا واقف في براندة منزلنا أنظر إلى المجهول، إذا بالحاج عبد الغفار يقترب مني:
- بتعمل إيه هنا..؟
- ولا حاجة... مستني تعيين الحكومة.
- من بكرة تسافر على القاهرة قَدِّم في الدراسات العليا، واعمل حسابك طريقك في القاهرة مش هنا، ولو جالك تعيين حوِّله على هناك.
لم يمتعنا الله بالحاج عبد الغفار طويلا، فاختاره إلى جواره، فارق الحياة الدنيا، ولكنه لم يفارقني أنا، فلم تنقطع نصائحه لي حتى بعد وفاته عام 1994م... في ذلك العام كان الجدل دائرا حول رواية (أولاد حارتنا) للأديب نجيب محفوظ، وهل هي حلال أم حرام؟ وهل يجوز نشرها أم يجب على الحاكم المسلم منعها ومعاقبة ناشرها؟ أسئلة كثيرة كانت تدور في ذلك الوقت حول هذا المعنى بعد حصول الأديب الراحل على جائزة نوبل، وظلت هذه القضية تشغل الأوساط الأدبية والدينية حينًا من الزمان، ثم تلاشت وتم السكوت عنها تمامًا، ككثير من قضايانا التي تأخذ جزءًا من أعمارنا ثم تنتهي دون حسم كأن شيئًا لم يكن، وكأن جدلًا لم يَقُم.
في ذلك الحين صدر كُتَيِّبٌ لأحد علماء الدين يهاجم رواية أولاد حارتنا، ويقيّمها إجمالا بمعيار الدين الذي لا يبيح الفواحش من القول والفعل، وكنت قد فرغت من قراءة الرواية للمرة الثانية وأُعْجِبْتُ بها أيما إعجاب، وعندما قرأت ذلك الهجوم عليها أخذتني العزّة بالأدب؛ حيث هو مجال تخصصي الدراسي، وبينما كنت أقرأ ذلك الكتيب كنت أُعدّ في نفسي ردًّا على كل كلمة وعلى كل انتقاد يوجهه للرواية ريثما أنتهي من القراءة فأبدأ في كتابة ذلك الرد، ونويت أن أرسله للنشر في أخبار الأدب آنذاك، وما إن انتهيت من قراءة الكتيب إلا وقد غلبني النوم فنمت على هيئتي ونيتي.
كان ذلك في سكني بالقاهرة، فرأيتني قاعدًا في (فراندة) منزلنا الريفي في محافظة البحيرة، وإذا بالحاج عبد الغفار مقبلٌ من جهة الغرب حيث مقابر القرية، ملتفًّا بكفنه، لا يظهر إلا وجهه، وقد أقبل عَلَيَّ مهتما واجمًا مسرعًا كأنه جاء في مهمة عاجلة، وكان قد نشر في حياته في بعض الصحف مقالات دينية، وهي إجمالا عن مكارم الأخلاق...
كانت أسرتي حولي في (الفراندة) فلم ينظر لأحد منهم بما فيهم أختي (زوجته) بل قصدني أنا، ثم وقف قبالتي تمامًا، ثم قال مشيرا بيده بالحرف الواحد:
(خلّي بالك يا إيهاب دول جايبين كل كلمة كتبتها؛ ورق قد كده –وأشار بيده من الأرض إلى صدره- وعمالين يسألوني: قلت دي ليه؟ وكتبت دي ليه؟ ولسه مخلصناش لحد دلوقت) وكان قد مرَّ على وفاته حوالي ستة أشهر.
ثم التفت وانصرف متِّجِهًا إلى حيث أتى من جهة المقابر.
استيقظت من نومي مرعوبا وظللت فترة شاخص البصر مذهولا، أعيد مشهده وكلامه على ذهني وأمام عيني كشريط سينمائي مرات ومرات؛ مدركًا ما كنت مقبلا عليه من هول كبير، وجرم خطير، أنقذني منه بنصيحته، وأُقْسِمُ أني لم أكن أعرف أن سؤال الملكين قد يطول لشهور أو أكثر إلا من هذه الرؤيا، فقد كنت أظن أن هذا الأمر يستغرق دقائق معدودات، وعرفت بعد ذلك أنه قد يستمر لسنوات...
استجمعت إرادتي ونهضت من على فراشي وأنا أقول في نفسي: (وأنا ما لي وما لنجيب محفوظ وأولاد حارتنا..؟).
------------
و#من_قلب_دسيا
إلى#قلب_القاهرة...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products