خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (31) من قلب قرية دسيا
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (31) من قلب قرية دسيا
فجأة دون أية أسباب أصَرَّ جدِّي على نقل سريره داخل حجرته، فكان بجانب الحائط القبلي، وأراد أن ينقله بمحاذاة الحائط الغربي، وَنَقْلُ سرير جدي لم يكن أمْرًا هَيِّنًا، إنه يتطلب فكًّا وتركيبًا مرهقًا، والسرير مستقر في مكانه منذ سنوات لم يتحرك، فما الداعي لكلِّ هذا العنت..؟!
- يا جدي لزمته إيه بس، السرير كده زي الفل؟
- معلش يا ولاد اسمعوا كلامي دي رغبتي.
كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي، وسن جدي ثلاثة وسبعون عاما، اجتمع إخوتي لإنجاز المهمة، وتم لجدي ما أراد، ولم يكن من المهم فَهْمُ مُرَاد جدِّي؛ فكم له من أحوال وأعمال لم نكن نفهمها مطلقًا، ولم يحرص أحد من أسرتي على أن يستوعبها، وكان الجميع يكتفي بأن (جدنا هو اللي عارف الموضوع ده) وكأننا لم نتوقع أنه سيموت يومًا.
من الأمور الخاصة بجدي أنه كان إذا ورد إلى دار الشيخ المغازي أحد المصابين بالبُهَاق ظانًّا بأن المشايخ سيعالجونه منه أحالوه إلى جدي لأبي (عبد البر عبد السلام)، فكان جدي يطلب كميات كبيرة من قشر الرمان، يقوم المصاب بجمعها له، وقد نتعاون في ذلك بما يتيسر لدينا منه، فكنا ندخر قشر الرمان لتلك الحاجة، كميَّة لا تقل عن خمسة كيلو جرامات من قشر الرمان، فإذا توفرت الكمية بدأ جدي عمله فيها، ونحن لا نعرف أي شيء عما يعمله، كل ما أذكره أنه كان يجففه في حرارة الشمس، ثم يطحنه، ثم يعجنه، ثم يعالجه على النار بطريقة معينة، ثم يُعَرِّضه للشمس، ثم يعيد الكَرَّة بكيفية هو يعرفها، وتظل الكمية في الاختزال لمدة شهر كامل من المعالجات المستمرة والمرهقة، ينتهي الأمر إلى استخلاص كمية من المرهم لا تزيد عن عشرين جرامًا، تملأ علبة كبريت صغيرة بالكاد، يعطيها جدي للمريض وبها يتم علاج البوهاق تماما. كان جدي يفعل ذلك حسبة لوجه الله، لم يكن يتقاضى عليه أجرًا، وكان يعمله بهمة وسعادة بالغة، الغريب أننا لا نعرف ماذا كان يفعل، ولا مِمَّن ومتى تعلمه..؟! كل ما نعرفه أن ذلك من مهارات جدي، التي لا يعرفها سواه.
لم يكن جدي يأكل الخبز الذي تَخَمَّرَ بخميرة بيرة، تلك التي تُسخدم في تخمير العجين إلى اليوم، وكان يعرفه من طعمه، فلم يكن يستسيغ إلا الخبز الذي تخَمَّرَ عَجِينُه بخميرة طبيعية، فمن أين لنا بتلك الخميرة الطبيعية..؟ ليلة في العام يعرفها جدي اسمها: (ليلة نزول النقطة)، كان جدي يخبر أمي بها كل عام، فتصنع أمي قرصًا من العجين، وتدُسُّه في خابية الدقيق في تلك الليلة التي حدَّدَها جدي، فيصبح هذا القرص خميرة طبيعية، ولا يكون ذلك إلا في تلك الليلة من العام، يتم تخمير العجين بهذا القرص، ثم يؤخذ قرص من العجين المُخَمَّر ويُدَس في الدقيق فيصير خميرة طبيعية للعجين القادم، وهكذا طول العام... حتى يحين موعد نزول النقطة من جديد في تلك الليلة التي يعرفها جدي ويخبرنا بها: (اعملوا حسابكم يا ولاد الليلة إن شاء الله ليلة نزول النقطة)... تلك أيضا من أمور جدي وحده التي لم نكن نعرفها.
كانت لجدي حلَّتَان صغيرتان تكفيان طبيخ طعامه فقط دون طعام الأسرة جميعا، كانت أمي تطبخ طعامنا في حلة كبيرة وتجعل منه جزءا يكفي جدي في حلة صغيرة، لماذا..؟ لأنه لا يأكل الطعام إلا إذا كانت الشطة نصف الطعام بالتمام... لا أدري كيف كان يطيق الطعام حَارًّا هكذا..؟! ورغم أننا لم نكن نأكل منفردين أبدًا، فالأسرة جميعها تلتف حول المائدة، وفي أماكن بترتيب تقريبًا لا يتغير، وطعام جدي يوضع على المائدة ذاتها... فإنها لمغامرة غير محسوبة وتهور شديد أن يفكر أحدنا أن يضع في فمه ملعقة أو إصباع (محشي) من حلَّة جدي .. نار نار نار. ولا أزال أتذكر دهشة أمي في بعض الليالي، عندما يقول جدي بعد أن يذوق الملعقة الأولى من طعامه: (إيه ده دا مش حراق..؟!) فترد أمي في دهشة: (والله يا با أنا حاطة الشطة قد الرز، مش حراق إزاي بس..؟!).
أما الأمر الأعجب، فهو كان إذا مرض أحد من عائلتنا أو أقاربنا، واشتد عليه المرض كبيرا كان أو صغيرا، هُرِعَت زوجته أو أمه إلى جدي: (طمنا عليه يا جدي عبد البر) فكان جدي يطمئنهم ويبشرهم بالخير دون حساب، فيلحون عليه ولا يتركونه إلا بعد أن يخبرهم خبره، فإذا اشتد إلحاحهم أجرى جدي عملية حسابية، أظنها تعتمد على اسم المريض واسم أمه وترتبط بالتاريخ الهجري ولكل حرف قيمة من حساب الجُمَّل العربي... مسألة لم يكن يعرفها إلا جدي، يخط بقلمه حسابًا عجيبًا لدقائق... ثم لا ينطق بشيء إلا مقدما بمشيئة الله: فإذا قال: (إن شاء سينجو منها). علم السائل أن ذلك ليس مرض الوفاة وأن مريضه ناجٍ منه بحول الله. وإذا قال: (ربنا يستر عليه) علم السائل أن مريضه غالبا سيلقى حتفه في ذلك المرض وأنها النهاية... كان ذلك علمًا يعرفه جدي فقط ولم يفكر أحد في معرفة ماذا يفعل..؟
كان جدي طبيبَ نفسِه، ويراعي ذلك في طعامه وشرابه، ولم نذكر أنه زار الطبيب يومًا... وذات يوم بعد نقل سريره بأسبوع واحد شعرنا بأنه تعبان؛ ولكنه تعب لا يمنعه من التحرك وممارسة حياته بصورة طبيعية، فطلب منه إخوتي أن يزور الطبيب، فرفض الفكرة بشدة واستهجان، فألحت الأسرة كلها عليه، فاستجاب جدي بشرط، وهو أن يذهب منفردًا إلى المحمودية ليكشف عند الدكتور حسن.
لا بأس... المهم يكشف لنطمئن عليه. وفي اليوم التالي (يوم السبت) ذهب جدي كما اتفقنا، وعاد يحمل قطعة قماش من الصوف الفاخر تكفي لتفصيل جلباب له.
- خير يا جدي الدكتور قال لك إيه..؟
- أنا ما كشفتش أصلا، وأروح للدكتور ليه؟
- إمال عملت إيه؟
- اشتريت قماش عشان أفصل جلابية جديدة.
سكتنا مندهشين، فأكمل جدي مبتسمًا:
مفيش وقت يا ولاد، يا دوب ألحق أفَصَّلْهَا وأصلي بيها الجمعة الجاية، إن شاء الله دي آخر جمعة لِيَّ في الدنيا، حودع الدنيا في جلابية جديدة.
لم يكن لدينا ما نُعَلِّق به، إلا أن نقول ما يقال غالبا: (ألف سلامة عليك يا جدي أنت زي الفل) فقال بثقة غريبة موجها كلامه لأمي: (مش لازم تلبسوا إسود، لكن لو مُصِرِّين اللي عندها جلابية سودة يا دوب تلحق تغسلها).
وبسرعة على غير المعتاد فَصَّل جدي الجلباب بعناية شديدة، واهتم بأن يكون في أبهى صورة.. يوم الأربعاء امتنع جدي عن تناول أيِّ طعام، ألححنا عليه كثيرًا في أن يأكل أي شيء ولكنه أصرَّ، واكتفى بشرب الماء فقط لا غير، ولا زلت أتذكر تبريره عندما سألناه عن سبب امتناعه عن الطعام: (بَغَيَّر مِعْدِتِي).... حتى جاء يوم الجمعة، فلبس الجلباب الجديد للمرة الأولى، وَصَلَّى فيه الجمعة.
كان لجدي مكان محدد في حجرة المعيشة التي نسهر فيها كل ليلة بعد وجبة العشاء، فيقعد في أول الحجرة عن اليمين، ونتراص جميعا بجانب الحوائط... كانت ليلة السبت شتوية باردة، وفي تلك الليالي يلتف جدي بعباءته تمامًا، ولا يظهر سوى عينيه وقد ضمَّ طرفي العباءة بيديه... كانت قعدته في مقدمة الحجرة وجميعنا متراصون عن يمينه، لم يتكلم جدي وإنما دقق النظر لكل واحد منا منفردا لمدة خمس دقائق لا يرفع عينيه من عليه، كأنَّه يرسم له صورة في قلبه، ثم ينقل بصره إلى آخر، ويثبت نظرته لخمس دقائق، كأنَّه يحاول أن يشبع من النظر إليه...
كُنَّا مُنْشغلين بالسمر والكلام، ولم يكن منشغلا بجدي في تلك الليلة ومتابعا لنظرات عينيه إلا أمي، لم ترفع نظرها من عليه وكأنه مُصَوِّر يقف خلف آلة التصوير، وقد كلفه المخرج بتركيزها خمس دقائق كاملة على كل فرد منا، كانت أمي تقعد في آخر الصف عن الشمال، فهي آخر المنضمين للجلسة بعد وضع الطعام ورفعه، كانت تتابع عَيْنَيْ جدي بدقة بينما نحن لاهون منشغلون عنها وعنه... ملأ جدي عينيه منَّا جميعًا، وعندما توجه لأمي أشاحت وجهها في سرعة كي لا يكتشف متابعتها له، وبعد الدقائق الخمسة نظرت إليه في قلق، فرأته يمسح دموعه من داخل العباءة ثم قال: (تصبحوا على خير يا ولاد) وذهب إلى حجرته.
نمنا جميعا ولكن أمي لم تنم، ظلت تتردد على حجرته خلسة لتطمئن عليه، وعند الفجر، سمعته يردد الشهادتين بحشرجة من يسلم روحه لخالقها، أيقظت أمي عمي فكيه بسرعة ودخلا عليه، فوجداه تحت الغطاء قد تجرد من ملابسه تماما ورقد مستقبلا القبلة، وقد وصلت الروح إلى الحلقوم ولم يعد حَيًّا إلا لسانه يردد الشهادتين.
فهمنا يا جدي لماذا نقلت السريرَ..؟! لتستقبلك السماء وأنت مستقبل القبلة.
فهمنا يا جدي لماذا امتنعت عن الطعام من يوم الأربعاء..؟! لئلا تحمل معك شيئا من الدنيا.
فهمنا يا جدي لماذا لم تذهب إلى الطبيب..؟! لأنك ذاهب إلى الطبيب الأكبر.
ليتنا كنا انتبهنا فملأنا أعيننا منك كما ملأت عينيك مِنَّا