خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (29) من قلب قرية دسيا
المُدهش في شعبان عيسى أنه عاش عزيزًا ومات عزيزًا، لم يُعَرِّض نفسه لإهانة، بل كان دائما يحظى بمكانة حيثما حلَّ، ولم يدخل قسم شرطة مهانًا أبدًا، والليلة الوحيدة التي قضاها في الحجز، كانت بمحض إرادته، ذهب بنفسه إلى القسم، ودخل الحجز في جريمة لم يفعلها بل نسبها إلى نفسه قاصدًا متعمدًا، وتحمَّل راضيًا قضية ليس له فيها ناقة ولا جمل... لكي يخرج منها بالناقة والجمل، والبقرة والجاموسة، والخروف والنعجة، والزريبة كلها.
صدر في الثمانينات قرار بوقف عمل الورش التي تنتج الطوب الأحمر، بحجة أن هذا الطوب يُصنع من الطينة السمراء، ويتم تجريف الأراضي الزراعية، وبقرار حكومي مفاجئ تم غلق جميع الورش في منطقتنا، وكان على الناس أن يبنوا الأدوار الأولى بالطوب الأبيض وهو حجارة ضخمة يقال لها (البُلُكّ) والواحدة منها تعادل 8 قوالب حمراء أو أكثر، أما الأدوار التالية للدور الأرضي فكان على الناس أن يستخدموا طوبا أسمنتيا توفَّر في ذلك الحين.
لا أدري ما الحكمة من هذا القرار الذي استمر لبضع سنين ثم عادت الورش إلى الطوب الأحمر كما كانت، هل استوردنا الطينة السمراء من الخارج مثلا..!!
كل ما في الأمر أن حكومتنا لفتت نظر الفلاحين إلى (البُلُكِّ الأبيض) ففتحت بابًا كان مغلقًا، ويسَّرَت أمرًا كان صعبًا، وهو البناء خلسة في الأراضي غير المصرح بالبناء فيها، فما كان يُبْنَى في ثمانية أيام أصبح يمكن إنجازه في ليلة واحدة، باستخدام هذا البُلُكِّ؛ فالواحدة تعادل 8 قوالب طوب مرة واحدة... ما شاء الله.
في ذلك الحين أصبح في القرى مشهد متكرر ومألوف، في كل ليلة عيد حيث الإجازات والانشغالات، تمر على مكان صباحًا فتجد بيتا كبيرًا أبيض في مكان كنت مررت عليه مساء وهو حقل أخضر. وكأنَّ جن سليمان -عليه السلام- هو الذي بناه.
مسار الموضوع أصبح معروفا، يأتي المشرف الزراعي فيحرر المحضر بأن البيت قائم، وينتهي الموضوع بغرامة بناء في أرض زراعية، مع بقاء البناء. أما إذا تم ضبط الباني أثناء البناء فسيتم وقفه بالقانون، ويكون البناء تحديًّا لذلك المنع.
وكأن المسؤولين منعوا الطوب الأحمر حماية للأراضي الزراعية، فعرف الناس بسبب ذلك الطوب الأبيض، فملأوا الأراضي الزراعية ببيوت تنشأ في ليلة واحدة نظرا لسرعة بنائها... ومن هذه البيوت قرية كاملة قامت في ليلة واحدة، في منطقة كانت موقوفة باسم وزارة الآثار بجوار قرية يقال لها كفر الرحمانية، قام الناس في ليلة عيد فبنى كل واحد بيتا فيها. حتى أُطلقَ عليها اسم (عزبة الليل).
وبعد إجازة العيد حضرت الشرطة، وأخذوا يقبضون على أصحاب تلك البيوت الليلية.. علم شعبان عيسى أن صاحب بيت منهم في رعب شديد، ويخشى من التعرض للشرطة، فذهب إليه وعرض عليه أن يتحمل المسؤولية مكانه، فوافق الرجل شاكرا إياه.
ركب شعبان عيسى سيارة الشرطة مع المتهمين، واعترف بأنه هو الذي بنى أحد البيوت، وتحررت المحاضر، والذي سار على الناس سار عليه، وأُفرج عن الجميع بكفالات، وصارت قضية، وُكِّل لها محام، وسُجِّل البيت باسم شعبان، فحمل متاعه وأقام فيه، وبعد أن انتهت القضية، جاءه صاحب البيت الأصلي شاكرًا ظانًّا أنه سيتركه له، ولكن هيهيات... جميع الإثباتات تؤكد أنه ملك شعبان... فأخذ ثمن نصف البيت الذي لم يبن فيه حجرًا واحدًا.
الغريب والعجيب يا مؤمن أنه بعدما تم تعبيد الطرقات، وتيسرت المواصلات، وامتدت أسلاك الكهرباء إلى القرى والنجوع، وانتشر الوعي بين الناس إلى حَدٍّ ما، كان السيد شعبان عيسى قد تقدم به العمر، وقلَّتْ حركتُه، ورغب في الاستقرار، فقرَّر أن يعمل فيما بَقِيَ من حياته شيخًا معالجا، يعالج المرضى، ويفك الأعمال، ويحل العُقَد العُضَال... ليس هذا عجيبًا ولا غريبًا فما العجيب والغريب إذن..؟!
الغريب والعجيب يا مؤمن أنه كان يعالج بالفعل، وكم شَفيَتْ على يديه حالات، وانفكت به كربات (آه والله العظيم).
اصبر ولا تتعجَّل... فعندما أحكي لك حالة من الحالات التي فك الله به كربها، وتعرف تفاصيلها، ستقتنع به، وربما لو كنت رأيتَه لأثنيت عليه، وقبَّلْتَ يديه.
ذات ليلة توقفت عربة كارُّو أمام بيت الشيخ شعبان، تقبع عليها سيدتان ورجلان، أما السيدتان فهما فتاة وأمها، والرجلان أبوها وأخوها، يحاول الرجلان السيطرة على الفتاة وهما في كرب شديد، فقد أصابها مَسٌّ من الشيطان، وتلبَّسَها جن، عيناها زائغتان، وتتحرك حركات هستيرية، وتزوم بألفاظ غير مفهومة، ولا يستقر عليها حجاب، كلما سترها أبوها وأخوها تكَشَّفَتْ فنزعت حجابها ونكشت شعرها، والأم باكية حزينة، لا تدري ما تصنع لابنتها.
نزل الجميع من على العربة وقد ربطوا الحمار في عمود الكهرباء القريب من منزل الشيخ شعبان عيسى، ودخلوا بابنتهم عليه.
انتظروا دورهم أمام حجرته، وهم يحاولون السيطرة على ابنتهم بشق الأنفس.
فتح الشيخ شعبان باب حجرته ونظر إلى الجميع بإطلالته المهيبة، وما إن نظر إلى الفتاة وأشار إليها بعصاه إلا وقد هدأ روعها قليلا... فقال: اتركوها (ادخلي في أمان وانصرفوا يا ملوك الجان...).
دخلت الفتاة إليه... وما هي إلا عشر دقائق.. وإذا بالفتاة تخرج على أسرتها كأنها ولدت من جديد، أو كانت في إغماءة وأفاقت منها، فجرت إلى أمها وسألت عن طرحتها فلفَّتْ رأسها في خجل ثم سألت أمها وأباها وأخاها: إحنا هنا ليه..؟ يللا بينا نِرَوَّح بيتنا.
شكرت الأسرة الشيخ شعبان واستمعت إلى طلباته باهتمام شديد.
كان أحد أبناء دسيا الذين يحبون مسامرة شعبان عيسى حاضرًا المشهد فرأى بعينيه وسمع بأذنيه، وبعد أن انصرف الناس وانفرد بالشيخ شعبان سأله وهو يكادُ يُجَنُّ:
- أنت عملت إيه مع البنت..؟
- عالجتها بفضل الله تعالى.
- فضل الله تعالى إيه..؟ أنت حتستعبط؟!
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. أنت حتكفر يا ابني، كل حاجة في الدنيا دي بفضل الله تعالى.
- عملت إيه مع البنت يا شعبااااان قسمًا عَظَمًا ما أنا سايبك غير لما أعرف عالجتها إزااااي.
عندما أُغلق الباب على الفتاة جلست في ركن أمام شعبان، فانشغل عنها بالنظر في كتاب كبير وترديد بعض التعاويذ، بينما دخان البخور الملوّن يتصاعد من مبخرة أمامَه يكاد يحجب وجهه عن الفتاة، وبعد خمس دقائق كاملة، أغلق الكتاب، ثم قال للفتاة بصوته المهيب:
(شوفي يا بنتي، أنا حضَّرت كل ملوك الجان، والجميع أكدوا لي إنهم، ولا أي حد من عندهم مسّك بسوء، وقالوا لي يا شيخ شعبان الموضوع مش عندنا، واللي فيها دا مش مننا... وإذا ما اعترفتش لك الآن حنولع فيها جزاء تَجَنِّيها...).
وإذا بالفتاة تنهار بالبكاء: (لا والنبي يا عم الشيخ ما تخلهومش يحرقوني همه ما لهومش ذنب).
- إمال إيه الموضوع...؟
- قروا فَتْحِتي على ابن عمي، وأنا مش طايقاه وبحب واحد تاني في البلد.
- شوفي يا بنتي، أنت محظوظة إنهم جابوكي لِيَّ أنا، ما تخافيش، سرك في بير، ولا يهمك، ركِّزِي معايا، ونفِّذِي اللي حا أقوله بالحرف، وأنا بعون الله حا أخلي الحَلُّوف ابن عمك هوه اللي يسيبك.. وأجوّزك للي أنت بتحبيه...
ومَدَدْ مَدَدْ مَدَاااادْ... بركاتك يا شيخ شعبان.