الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (30)

خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (30) من قلب قرية دسيا

(30)
إذا امتلكتَ آلة الزمن، وأدرتَ مفاتيحها لتعود بك إلى فترة السبعينات من القرن الماضي، ثم اخترتَ: (دسيا - المحمودية – بحيرة)، ربما رأيت رجلا يُدْخِل دارَه جوالًا بعد أن أخفاه على عربة كارُّو، وهو يلتفتُ حَوْلَهُ خَشْيَةَ أن يراه أحد، لأنه يعمل عملا مُخجلًا، لا يليق بقرويٍّ أبدًا... إذا رأيت ذلك المشهد في ذلك الحين فلا تشكَّ في هذا المسكين، وأحسنِ الظن به، إنه ليس جوال هُرُوِين، ما هو إلا جوالٌ من الدقيق لطعام بيته..!! لا تتعجبْ؛ فشراء الدقيق في ذلك الحين كان عيبًا أيًّمَا عيب، لم يكن يليق بالفلاح إلا أن يكفي بيته من حبوب القمح لا أن يشتري الدقيق.
الحدَثُ نفسُه لم يتغير، رأيت الناس في قريتي يتوارون خجلا منه، ويتحاشى الجيران النظر إلى وجوههم لئلا يحرجوهم. وفي بضع سنين فقط صار الناس يزهون ويبتهجون به ويتوافد الجيران لتهنئتهم عليه..!!
يا ربي..!! كيف تتغير الاقتناعات من النقيض إلى النقيض؟
لم يحدث هذا التحول الحاد في أمر واحد، بل شمل أمورًا عظيمة وأمورا بسيطة، حتى صار كأنه سمة للحياة.
كان الذي يُعْفَى من الخدمة العسكرية لعدم لياقته يمشي بين الناس حزينًا كاسفَ البال، ويقال إنَّهُ: طلع (شُرُك) وهذه الكلمة تعني أنه لا يصلح للدفاع عن وطنه، وهو عيب يقلل من قيمة الرجال.
دار الزمان دورة خفيفة فتغيرت الاقتناعات، وأصبح الذي ينال الإعفاء لأي سبب حتى لو (شُرُك) يسير مبتهجًا ويقصده الجيران مباركين مهنئين، وكأنه نال جائزة كبرى.
كان يقال للذي يلتحق بالجيش: (الجُنْدي) حتى إن اسمه طوال خدمته يكاد يُنسى، فيخاطبه الناس بوصفه هذا الذي يفتخر به فيقال له: أهلا بالجُنْدِي... مع السلامة يا جُنْدِي... وبعد أن ينهي خدمته يظل ذلك الوصف اسمًا له لأعوام.
في ذلك الزمان الجميل في آخر السبعينات كان أحد جنود دسيا قد أنهى خدمته الوطنية، وعاد إلى القرية يحمل رخصة قيادة سيارات، اكتسبها من الجيش. ولم تكن في قريتنا آنذاك سيارة واحدة، فالطرق أصلا غير مُعَبَّدَة، وأقرب طريق مسفلت هو الطريق الرابط بين المركز والمحافظة (طريق المحمودية دمنهور) وهو على مسافة خمسة كيلو مترات من دِسيا.
قررت أسرة الجندي أن يستمر في امتهان ما اكتسبه من القوات المسلحة فقررت شراء (أوتومبيل) كما كان يُسَمَّى، يعمل عليه على خط المحمودية دمنهور.
وذات صباح بينما كان الجندي مارًّا أمام عزبة الفار، لم تكن السيارة مسرعة، بل بسرعة تتناسب مع منطقة مأهولة بالسكان، ولكن شاءت الأقدار أن يقطع الطريق فجأة شيخ مُسِنٌّ ضعيف البصر ثقيل السمع.
أطلق الجندي سرينة السيارة منبها، ولكن صوتها تهادى إلى الشيخ كأنه زقزقة عصافير الصباح. هو ماضٍ إلى أجله المحتوم، ولم تعد للجندي حيلة في تفاديه، فضغط على كوابح السيارة، فلامست الشيخ لمسة يسيرة، ولكن كانَ الأجَلُ قد سبق، فلم يعد في الرجل رمق... توقفت السيارة وتوقفت أنفاس الرجل.
من المتوقع أن يجتمع أهل القرية فيؤذوا السائق دون تفكير أو مراجعة ما حدث، فالناس دائما يرون السائق مخطئا، وإن كان بريئا، وقبل أن يتكالب الناس عليه لجأ الجندي إلى أقرب منزل إليه. خرجت منه سيدة فأخبرها أنه صَدَمَ رجلا على الطريق ويريد الاحتماء ببيتهم. فأدخلته البيت وقالت: (ما تخافش يا ابني أنت في بيتنا وفي حمايتنا محدش حيقدر يِمِسَّك بحاجة أنت في أمان).
خرجت السيدة بعد أن أغلقت الباب على الجندي تستطلع الحادث... ويا لها من مفاجأة؛ إن القتيل الملقى على الرصيف أمام السيارة لم يكن سوى أبيها..!!! انكفأت على أبيها تبكيه وإذا بالناس يسألون عن السائق. فقالت في ثبات عجيب وهي تغالب بكاءها والكلمات تخرج منها متقطعة ممزوجة بنهنهات البكاء: (السواق عندنا في البيت.. وأنا إديته الأمان... إياكم إياكم تمسوه بأي حاجة سيبوا الراجل يروَّح بأمان زي ما وعدته...).
لم يمس أحد الجندي بأي أذى، فقد وقفت لهم ابنة القتيل بالمرصاد، فأبلغوا الشرطة، ونما الخبر إلى أهل دسيا، فخرج جميع وجهائها للوقوف بجانب ابنهم.
وسرعان ما اجتمع الرجال من القريتين لحسم الموضوع قبل رفعه إلى النيابة، كان عدم إيذاء ابن دسيا أمرًا له تقديره، فقال أهل دسيا لأهل القتيل: عدم اعتدائكم على ابننا لا يُقَدَّر بمال، ونحن تحت أمركم اطلبوا ما تشاءون.
ولحسن الحظ، كان أهل القتيل عقلاء مقدِّرِين، فتفهموا الحدث على حقيقته، وقالوا: نعلم أن أبانا كان ضعيف البصر وضعيف السمع، وهذا قَدَرُهُ وإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أعطينا لابنكم الأمان وقد عفونا عنه عسى الله أن يعفو عن أبينا. ولنا طلب واحد فقط.
- ما تأمرون به يكون.
- لا تمر تلك السيارة من أمام قريتنا لمدة سنة.
فإذا بالجندي يقول: مش سنة ولا اتنين ولا تلاتة... العُمْر كُلُّه.. أنا ما يلزمنيش عربيات تاني.
اتفق الجميع من أهل دسيا وأهل القتيل على إغلاق المحضر باعتبار الرجل مات دون أن تلامسه السيارة ليخرج الجندي من النيابة بصورة طبيعية دون أن يتحول المحضر إلى قضية، وأشركوا ضابط الشرطة معهم في القرار، وكتب الضابط محضرًا يؤكد تلك الرواية، وبدأ الضابط يُملي على الجندي ما سيجيب به وكيل النيابة إذا سأله حتى لا تختلف أقواله مع ما تم التوافق عليه في المحضر بين الجميع.
لم يكن مطلوبا من الجندي أن يقول ما حدث، وإنما ما تم الاتفاق عليه، وهذا ما يجعله يغادر النيابة إلى بيته في الحال دون أية عقبات أو تَبِعَات.
استمع الجندي إلى الضابط فتغير وجهُهُ وظهر عليه القلق الشديد... فسكت سكوت غير المقتنع، وبدا كأنه لم يفهم.
سأله الضابط: ساكت ليه... حفظت خلاص حتقول إيه لو وكيل النيابة سألك عَنِ اللي حصل..؟!
- حفظت يا باشا بس عندي مشكلة.
- كل حاجة متظبطة، مشكلة إيه تاني يا جندي؟
- لو وكيل النيابة طلب إني أقول: (والله العظيم...) أعمل إيه..؟!!
------------
ولعل للحديث بقية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products