خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (32) من قلب قرية دسيا
هي ثلاثة أيام فقط، كانت خلال الإجازة الصيفية وأنا بين الصَّفَّين الأول والثاني الابتدائيين، التحقت فيها بِكًتَّابِ سَيِّدِنَا الشيخ محمد المصري –رحمه الله رحمة واسعة- ولم أستمرّ؛ ليس كُرْهًا للكُتَّاب، ولا خوفًا من سيِّدِنَا، وإنما لأنَّ الظَّرْفَ التَّاريخي لم يكن يسمح مطلقا باستمراري؛ كان دستور الكُتَّاب في ذلك الحين أن عصَا سيدنا تَطال كل القاعدين أمامه، ولن يعدم سبب الضرب، تقصير في الحفظ، أو استهانة بجودة الخط، أو عدم التزام بانضباط عام... العصا متحفّزة والجميع يتعرَّض لها، إلَّا أنا كأنَّ معي حصَانة، والحقيقي أنني لم أكن أعرف على وجه التحديد لماذا..؟ ربما لمكانة أبي الذي لم يكن مرَّ على وفاته عامٌ واحد، وربما لأنني كنت أتَّسِم بالهدوء والوداعة التي تضطران سيدنا لمعاملتي بصفة خاصّة؛ كل ما أتذكره أنني قررت عدم الاستمرار لأنني شعرت -رغم حداثة سني آنذاك- أنني أُحْرِجُ سيدنا بوجودي بين الأطفال، وأضطره لأن يعاملني معاملة خاصة، وهذا يُعيق ممارسة عمله بانطلاق وتلقائية مع الجميع، فقررت من نفسي إعفاءه من الحرج. وفي الحقيقة لم يكن أخوتي يجبرونني على أي شيء، ولا يُمْلُون عليَّ أيةَ رغبات، ويتركون لي تقرير ما أشاء فيما يخصني من صغري، بل إن عبد البديع كان أحيانًا بل غالبًا يستشيرني في أمور أراها أكبر من سني بكثير، فكان يضطرني إلى أن أفكر وأُدلي برأيي.
هي ثلاثة أيام فقط، كانت خلال الإجازة الصيفية وأنا بين الصَّفَّين الأول والثاني الابتدائيين، التحقت فيها بِكًتَّابِ سَيِّدِنَا الشيخ محمد المصري –رحمه الله رحمة واسعة- ولم أستمرّ؛ ليس كُرْهًا للكُتَّاب، ولا خوفًا من سيِّدِنَا، وإنما لأنَّ الظَّرْفَ التَّاريخي لم يكن يسمح مطلقا باستمراري؛ كان دستور الكُتَّاب في ذلك الحين أن عصَا سيدنا تَطال كل القاعدين أمامه، ولن يعدم سبب الضرب، تقصير في الحفظ، أو استهانة بجودة الخط، أو عدم التزام بانضباط عام... العصا متحفّزة والجميع يتعرَّض لها، إلَّا أنا كأنَّ معي حصَانة، والحقيقي أنني لم أكن أعرف على وجه التحديد لماذا..؟ ربما لمكانة أبي الذي لم يكن مرَّ على وفاته عامٌ واحد، وربما لأنني كنت أتَّسِم بالهدوء والوداعة التي تضطران سيدنا لمعاملتي بصفة خاصّة؛ كل ما أتذكره أنني قررت عدم الاستمرار لأنني شعرت -رغم حداثة سني آنذاك- أنني أُحْرِجُ سيدنا بوجودي بين الأطفال، وأضطره لأن يعاملني معاملة خاصة، وهذا يُعيق ممارسة عمله بانطلاق وتلقائية مع الجميع، فقررت من نفسي إعفاءه من الحرج. وفي الحقيقة لم يكن أخوتي يجبرونني على أي شيء، ولا يُمْلُون عليَّ أيةَ رغبات، ويتركون لي تقرير ما أشاء فيما يخصني من صغري، بل إن عبد البديع كان أحيانًا بل غالبًا يستشيرني في أمور أراها أكبر من سني بكثير، فكان يضطرني إلى أن أفكر وأُدلي برأيي.
لم يكن لدى أسرتي أية مشكلة في الذهاب إلى الكُتَّابِ من عدمه، خاصة وقد أبديْتُ في الصفِّ الأول الابتدائي تَفَوُّقًا ملحوظًا، لدرجة أن أخي عبد البديع اصطحبني يوما إلى المدرسة، وطلب من الناظر اختزال سنة فيتم امتحاني مع تلاميذ الصف الثاني الابتدائي، لأنتقل من الصف الأول إلى الصف الثالث مباشرة، وكان هذا ممكنًا آنذاك، ولكن الناظر نصح أخي بألَّا يفعل وأن أستمر في دراستي بصورة طبيعية فهذا هو الأفضل علميًّا، ليكون السن مناسبًا للمناهج المقبلة في إعدادي وثانوي، وامتثلنا لرأيه.
رغم إنها ثلاثة أيام فقط تلك التي انتظمتُ فيها مع سَيِّدِنَا، فقد هَالَنِي حينها ذلك البَوْنُ الشاسع بين المَدْرَسة والكُتَّاب، يا لَهَوْلِ المفارقة... كانت الحروف الأبجدية في المدرسة خطوطًا جامدة، أما في كُتَّاب سيدنا فهي كائنات لها أرواح. في المدرسة قالوا لنا إن الألف مثل ال (عصا) خط مستقيم من أعلى إلى أسفل، ولكن سيدنا قال لنا: الألف تُكْتَب على ثلاث مراحل؛ فرأسها غير جسمها غير طرفها السفلي. في المدرسة قالوا لنا: الباء طَبَقٌ تحته نقطة، والتاء طبق فوقه نقطتان، أما في كُتَّابِ سيدنا فللحروف ملكوت، عليك أن تدخله بوقار، وأن تتقن كتابة كل حرف منفردًا كأنك ترسم لوحة بديعة، فَسِنَّةُ الباء القائمة الأولى غير الأخيرة، والخط الواصل بينهما ليس عصًا مُلْقَاة، وإنما ينبض بالحياة وفيه تَقَوُّس جميل من الناحيتين. لم تكن الباء طَبَقًا عند سَيِّدِنَا مُطْلَقًا (هي طَبَقٌ في المدرسة فقط...) ورغم أنني التحقت بالكُتَّابِ وأنا أجيد القراءة والكتابة، فقد بدأ سيدنا معي من جديدٍ ليطمئن على سلامة كتابة كل حرف، وأذكر أنه توقَّفَ معي يومًا كاملا من الأيام الثلاثة أمام استدارة حَرْف الرَّاء، لأجيد كتابته بصورة صحيحة فوق الخط وتحته، لتفترق في صورتها كُلِّيَّة عن حرف الدال.
أما ما أدهشني حقًّا فهو ذلك التنوّع الكبير في سِنِّ القاعدين أمام سَيِّدِنَا، واختلاف مستوى ما وصل إليه كل منهم من التعلُّم والحفظ، قرابة مئة نَفْسٍ؛ من خمسة أعوام إلى 20 عامًا، يتابعهم في وقت واحد ومكان واحد، فيُعَلِّم هذا نُطْقَ الحروف وكتابتَهَا، ويُراجع مع آخر إتمام حفظ آخر ربع من سورة البقرة؛ كل هذا في تناغم عجيب، وذهن متوقد مع كل منهم على حدة.
خمسون مترًا مُرَبَّعًا لا تزيد، تلك هي مساحة المُصَلَّى أمام الميضأة في المسجد القبلي، كان يُقَام فيها كُتَّابُ سيِّدِنا يوميا من طلعة الشمس إلى صلاة الظهر، أظنُّ أنها كانت تحقق ما لا تحققه بعض المدارس اليوم.
كان منهج سيدنا يقتضي ألَّا يبدأ الطفل حفظ القرآن الكريم إلا بعد أن يجيد القراءة بصورة صحيحة وحده دون مساعدة من أحد، وألَّا يجيد الكتابة فقط، وإنما يجيدها بخط جميل، وكذلك تعلُّم مبادئ الحساب الأولية من جمع وطرح وضرب وقسمة.
كان سيدنا يرى أنه طالما عرف الطفل أسماء الحروف، ووظيفة الحركات، فعليه أن يقرأ جميع كلمات اللغة بطلاقة، وكان يصبر في سبيل ذلك صبرًا عجيبًا... أذكر أنني وأنا في المرحلة الإعدادية دخلت المسجد والكُتَّابُ قائِمٌ، وقعدتُ أتوضأ ومن خلفي سيدنا والأطفال أمامه، وهو يستقرئ أحدهم (لإيلافِ قريش...) يراجع مع الطفل كل حرف وحركته، ويطلب منه الوصول إلى نطق الكلمتين بنفسه. انتهيت من وضوئي والطفل وصل إلى لِإيلَا... كانت أُذُنَايَ مع سيدنا والطفل، وكنت مللت من هذا الصبر، وبينما أنا مارٌّ من أمامهما داخلا إلى صحن المسجد، نظرت إليهما مبتسما، وقلت: (يا سَيِّدنا ليه التعب ده..؟! ما تقول له: لِإيلَافِ قُرَيْشٍ وهو يرد وراك وخلاص).
وكأنني ارتكبت كبيرة من الكبائر، فإذا بسيدنا يغضب بشدة، كأنه بَنَّاءٌ بنى نصف جدار بجهد جهيد، فإذا بي قد هدمته له في ثانية... وضع سيدنا رأسه بين يديه كمن أُسقِطَ في يده وهو يقول لي: (يوووه ليه كده بس حرام عليك..؟! ضيعت تعبي معاه؛ كده عُمْره ما حيتعلم القراية...).
يتعلم الطفل ذلك من خلال كرَّاسَة ورقية وقلم رصاص، فإذا اجتاز مرحلة إجادة القراءة والكتابة والحساب اطَّرَح الكرَّاسة والقلم الرصاص إلى غير رجعة، وتسلَّم اللَّوح الخشبي، والقلم البُوص، والحبر الشِّيني، ليبدأ رحلته مع حفظ القرآن الكريم..!!
كانت الألواح الخشبية بمساحة 20 × 30 سم ولها رأس تُمْسَك منه، ومدهونة بزيت أبيض أملس، يأخذ كل واحد لَوْحَهُ صباحًا فيكتب عليه بالحبر الشيني الأسود، وبالقلم البوص، بخطه وبالتشكيل الكامل نقلا من المصحف ما ينبغي عليه حفظه في ذلك اليوم، ثم يعرضه على سَيِّدِنَا فيراجِعُه معه، ويستمع إليه وهو يقرأه من اللَّوْح، ثم يعود إلى مكانه فينكفئُ على لَوْحِهِ يحفظ ما كتبه بيده، وآخر النهار يُسَمِّعُه لسيدنا، ثم يغسل لَوْحَهُ ويجففه ويعيده إلى مكانه أبيضَ ناصعًا بعد أن تكون الآيات قد انتقلت إلى صدره بالتَّمَام.
كنتَ إذا دخلت المسجد في أي وقت رأيت الأقلام من البوص والأحبار والألواح متراصة في الركن أمام باب المصلى، ولها هَيْبَةٌ جليلة. وذات يوم وأنا في الصف الأول الثانوي دخلت المسجد لصلاة العصر، كان سيدنا يجلس في مكانه وعن يمينه تلك الألواح، سلمت عليه وقلت له:
- ممكن أقول حاجة يا سيدنا..؟
- فقال مبتسما: خيرًا..؟
- لَزْمِتْها إيه الألواح دي في الزمن ده..؟ الكراسات كتير والورق كتير؛ كل واحد يجيب معاه كراسة وقلم وخلاص..؟!
- يعني أنت جبت التايهة..؟ وبعد ما يكتب القرآن في الكراسة ولَّا الورقة حَيْوَدّيها فين..؟
- معرفش.
- أنا بقى عارف؛ حيرميها وينداس عليها أو يبيعها لبتوع اللِّب... إحنا بِنِحْفَظ كلام ربنا بالألواح دي.
قلتُ في نفسي وأنا أنصرف: آه والله فعلا، وأنا اللي كنت فاكر نفسي جِبْتِ التايهة..!!