خزانة الأديب :
كأن القرآن يتنزل من جديد (موسم 1440/2019 )
يقول الواحد الأحد الفرد الصمد :هذه آية مفتاح لمنهجيات راشدة في التعليم والدعوة معا.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْن أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).
الآية تتجاوز بكائيات المحنة إلى منطق عملي واقعي يبصر الواقع ولا يفر منه.
يبصر الواقع ولا ينكره.
يبصر الواقع ولا ينخدع عن أمره.
الواقع :سجن وإن كان السجين إماما بريئا.
الواقع :سجن وتحول عافية وإن كان السجين شريفا نبيلا .
الواقع :سجن وأزمة وإن كان السجين من أصول بالغة البذاخة سموا ونبلا ومروءة ومحتدا وكرما.
الآية في افتتاحها بالنداء الإنساني (يا صاحبي السجن ):درس عبقري في تجاوز المحنة المحيطة بيوسف إلى منطق من الوعي العملي باللحظة الراهنة. ودرس عبقري في استثمار الطبيعة الإنسانية التي جبلت على الاجتماع والأنس.
ودرس عبقري في أن رأس مال الداعية هو الناس.كل الناس.
بريئهم ومذنبهم. صالحهم وعاصيهم.
من يغلب على الظن نجاته وترقيه في الدنيا ومن يغلب على الظن هلكته في الدنيا.
الآية درس عبقري في أن مادة نجاح الداعية هي الناس. كل الناس.
والآية درس عبقري في التواضع الأخلاقي.
ودرس عبقري في ترك التعالي على الناس.
وفي ترك الغرور على الناس.
يوسف ابن الأكرمين سجين في صحبة سجناء!
يوسف ابن الأكرمين غير ذاهل عن الوضع الجديد ومتطلباته في الخطاب.
يوسف ابن الأكرمين يسعى في سجنه بإيجابية ليستنقذ آخرة من علم أنه سيخرج للإعدام مشفقا عليه من خسارتين يجمعهما.
ويسعى لاستنقاذ الحياة بهداية من علم نجاته وقربه من مصادر صنع القرار في مؤسسة الحكم في مصر. وسيستثمر هذه الدعوة عندما تحيط الأزمة الاقتصادية بمصر وسيذكر هذا الناجي إحسان يوسف الداعية الإيجابي المتواضع المقبل على الناس.
الآية درس عبقري في أن أساس النجاح ماثل في صيانة أصحاب الدعوات للحاضنة الاجتماعية.
لا التعالي عليها والتكبر عليها والتنكر لها والتنقص منها.
هذا بعض ما سكن بنية النداء المؤثر (يا صاحبي السجن ).
أما المفتتح فذلك شأن آخر ودرس بليغ في وسائل التعليم الناجعة.
لاذ يوسف بالسؤال تفجيرا لطاقات الذهن وطلبا لعمل العقل وتهيئة لنشاطه نحو المعرفة.
(أأرباب متفرقون خير أم الواحد القهار ): هذا سؤال تمهيدي يضع مجتمع السجن الممتحن أمام نفسه وأمام عطايا الرب الجليل.
إنه يلوذ بمنطق كوني وسؤال كلي .
وهو سؤال كان كفيلا مع حزمة سؤالات أخرى أن يؤسس لمنهجية كلية في الهداية إلى الله وهو بعض ما أثمر في تاريخ علم الاعتقاد.
السؤال مفتاح التعلم.
والسؤال تنشيط للقابلية على التعلم.
والسؤال تفجير لطاقات القدرة المركوزة في الأذهان على التعلم.
والسؤال استراتيجية تستهدف العصف الذهني تهيئة للأذهان على قبول الجواب القادم من المجيب . والسؤال ترقية للعقل المتعلم .
والسؤال مواجهة لكل الأشكال المقاومة للتعلم.
السؤال عبقري يقر دعاوى الأرباب المزعومين الذين يخدعون الناس من بوابات البر والعطاء-.
فيتصمم السؤال بتصدير التسمية المرتبطة بالرعاية والربوبية (أرباب ).
وهذا هو المدخل الذي يزل بالأقدام.
ويسقط بالنفوس .
ويبني الولاءات والانتماءات.
ثم يكر السؤال في بقية تصميمه فيذكر (الواحد القهار ).
والواحد القهار فوق الأرباب.
والواحد القهار ماحق للربوبيات المزعومة.
والواحد القهار عاصف بالمنح المغشوشة والعطايا التي لا تؤازرها قوة منشئة.
ولا قوة حامية. ولا قوة داعمة.
الآية حلقة أولى مترعة باستراتيجيات دعوية وتعليمية غابت زمانا فتورط الجمع في خسارات متتابعة.
الآية تعالن بأن الطريق يبدأ من تقدير واع للواقع.
والآية تعالن بأن السقوط كان بسبب خسارة الحاضنة الاجتماعية المتمثلة في الناس .
والآية تعالن بأن الطريق يبدأ من التواضع للخلق والإدراك للواقع والاستثمار الحي للكليات الإنسانية.
الأستاذ الدكتور خالد فهمي
أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة المنوفية