الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (44)

 خزانة الأديب :
 الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (44) من قلب قرية دسيا


شهور قليلة خلال المرحلتين الإعدادية والثانوية، رافقت فيها أخي عبد البديع في بعض الزيارات الاجتماعية للأقارب والأصدقاء، وقد شجَّعَنَا على هذه السفريات اقتناؤنا دراجة بخارية (موتوسيكل جاوة 14) وكُنَّا نعدُّ ذلك نوعًا من المغامرة، فقد نسافر بهذه الدَّرَّاجة لمسافات لا يتم قطعها إلا بسيارة، ولكننا كنا قد أجدنا قيادة الدراجة وإصلاحها إذا لزم الأمر، فكانت الرحلات بها تشبه رحلات الكشافة؛ إذ تتطلَّب الاعتماد على النفس والاستعدادَ الدَّائم لمواجهة الصعوبات وحلّ المشكلات.
زُرْنَا أقارب في أقاصي المحافظة لم تكن تتيسر زيارتهم قبل الدرَّاجة، فقطعنا راكبينَ بعض ما قطعه جدِّي من قبلُ ماشيًا، ولكننا لم نبلغ ما بلغ.
من الجميل في هذه الرّحلات أنني رأيت ما لم أره في دسيا، واطلعت على أحوال أناس لم أكن أتخيّلها؛ ومن ذلك أننا زرنا أحد الأقارب في قرية في أقاصي المحافظة، فوجدناه عند أحد جيرانه مواسيًا له في مصيبة حلت به، ولأن أخي كان يعرف ذلك الجار، وجد من الواجب أن نلحق به مواسِيَيْنِ، فذهبنا إليهما ودخلنا عليهما.
منزل ريفي بسيط، والرجل المنكوب قاعد وقد ربط رأسه بمنديل كأنّه يحاصر صداعا، وهو حزين منكّس الرأس، ويردد: (عليك العَوَض ومنك العَوَض يا رب) والجيران يترددون عليه مواسين: (ربنا يعوضك خير.. خلِّي تكالك على ربنا.. وإن شاء الله الحكومة حتجيبهم).
كان اللصوص قد هجموا على زريبته ليلا وسرقوا مواشيه، بقرتين وعجلا، وتركوا الزريبة خاوية إلا من خروف صغير وعنزة.
لَكَمْ تألمت حينها من أجل هذا المسكين، كان الرجل يحكي لكل من يدخل عليه كيف كسر اللصوص باب الزريبة في هدوء وحملوا مواشيه على سيارة معهم، ثم انطلقوا بها وقد استيقظ من نومه والسيارة منطلقة وأخذ يجري ويصرخ وراءها دون جدوى، ولم يكن في تلك القرية المنعزلة عن المدينة أية وسيلة كسيارة أو غيرها لإدراكهم بها.
أما ما جعل هذه القصة صامدة في ذاكرتي إلى اليوم فهو ما دار بيني وبين أخي من حوار بعدها بينما نحن عائدين على (الموتوسيكل):
- مسكين الراجل ده صعبان عليَّ.
- أنت صدقت يا إيهاب؟!
- صدقت إيه؟
- صدقت إنه اتسرق بجد؟
- نعم.. إمال إيه يعني..؟!
- أنا عارفه كويس.. وأظن بنسبة 99.9% إنه هو اللي سرق البهايم.
- ويسرق بهايمه ليه..؟
- لأنها مش بهايمه.. دي كانت شركة عنده، مشارك عليها ناس تانية، فباعها في السرِّ وادعى إنها اتسرقت.
- تتوقع فعلا يكون عمل كده..؟!
- أتوقع ونص بل أكاد أجزم بذلك.
ثم قال لي أخي: ما سألتش نَفْسَك: الحرامية سابوا الخروف والمِعْزَة ليه..؟ لأن دول بس هُمَّه اللِّي مِلْكُه.
لا أنكر أنني بقدر ما تملكني الحَنَقُ على هذا الرجل لخيانته شركاءه، وسرقته حقهم إن كان فعل هذا، وغالبًا فعله، تملكتني الدهشه من قدرته الفائقة على التمثيل كأنه ممثل محترف.
وينطلق بنا (الموتوسيكل) من تلك القرية في محافظة البحيرة إلى حي من أحياء الإسكندرية، حيث كانت أسرة من أبناء أصهار جدي قد انتلقت لتعيش هناك، وما إن فاجأناهم بالزيارة السريعة قال لنا الحاج (فكيه): كويس إنك جيت يا أستاذ بديع، فيه مشكلة عند الجيران تعالَ حِلَّها.
كان لهؤلاء الجيران فتاة مخطوبة لأحد أبناء الصعيد، وقد اتهمها الجيران بسرقة خاتم من شقتهم، وحجتهم أنها الوحيدة التي دخلت بيتهم واختفى الخاتم بعد زيارتها مباشرة، ولم يدخله أغراب بعدها... لم تكن الحجة قوية بل واهية، وكان الجدل حول المشكلة مستمرًّا... الجيران مصرون على القَسَم، والفتاة وأهلها رافضون، والحاضرون يحاولون إيجاد حل للمشكلة.
في هذه الأثناء حضر العريس وأبوه فجأة، ودخلا والجيران وأخي وقريبنا مجتمعون يحاولون إقناع الفتاة بأن تحلف على المصحف لتبرئ نفسها، وقد سمع العريس وأبوه بعض اللغط على الباب، ولكن عندما حضرَا سكت الجميع تقديرًا لهما، ورحبوا بهما مبتسمين، وكأنَّ شيئا لم يكن.
وإذا بأبي العريس يسأل عن سبب حضور كل هؤلاء ويصر على معرفة السبب، ورغم محاولات الجميع إقناعه بأنه خلاف بسيط وانتهى، فقد احمرَّ وجهه وانتفخت أوداجه، وازداد إصرارًا على معرفة التفاصيل، ولم يجد الجميع مناصًا من إخباره بالقصة كلها، فمهما حاولوا تضليله فسيعرف الحقيقة من جيران الجيران إذا شاء. ومؤكد أنه سيفعل إن لم يخبروه.
ثم قال له أصحاب الخاتم: (ولكن بحضوركم نحن متنازلون ولا نريد يمينًا ولا أي شيء، ونعتذر عن سوء الظن وما سببناه من إزعاج، أهلا وسهلا نورتم إسكندرية كلها أنتم ضيوفنا كلنا).
كنت أظن أن هذا الكلام الطيب سينهي المشكلة تمامًا، وإذا بأبي العريس يقف غاضبًا ويقسم بأغلظ الأيمان بلهجته الصعيدية إن لم تلحف الفتاة أمامه على المصحف، فسوف يفسخ الخطبة في الحال ويعود إلى الصعيد بالشَّبْكة وكل ما قدمه ابنه لها من هدايا.
قلت لأخي ونحن منصرفان: (أصحاب الخاتم سامحوا وتنازلوا عن اليمين، هو يُصِرُّ ليه..؟ فعلا الرجل دا صعيدي وصدق اللي قال إن الصعايدة ما بيفهموش).
فقال لي أخي: (لا.. أنت اللي مش فاهم، القضية صارت قضيته هو، مش حكاية الخاتم راح فين..؟ الحكاية عايز يتأكد من تلك التي سيتزوجها ابنه، هل هي سارقة أم بريئة..؟ مش عايز يدَخَّل عيلته واحدة حرامية).
لا أزال أشعر بالحزن لأنني لم أفهمها وحدي في ذلك الوقت، وظلمت الصعايدة...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products