خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (38) من قلب قرية دسيا
إذا رأيت سيدة قروية تبكي وتندب حظها، وتشتم وتسب وتلعن أمَّ عَلِيّ، فواسها ولا تشفق أبدًا على أم علي، بل العنها مع اللاعنين، فأمُّ عَلِيٍّ هذه ليست سيدةً، وعليٌّ هذا ليس بَشَرًا، وأظنها رائدة ما يُسَمَّى بالإرهاب في العالم، هي أوَّل إرهابيَّة على وجه الأرض، ولا أعرف للقرويات عدوًّا مثلها، إذا غفلوا عنها دقائق تتسلل في خفة عجيبة، ويكفيها ثلاثة سنتيمترات فقط تحت عقب الباب تدخل منها فتقتل جميع صغار الطيور، تستطيع تلك المجرمة أن تقتل خمسين كتكوتا خَنْقًا في أقل من دقيقتين، وتعود في سرعة الريح لا أحد يحس بها، ولا يدري من أين أتت ولا إلى أين ذهبت..؟ ما إن تلتفت ربة المنزل لتحضر طعام طيورها أو لتفعل شيئا من أمور بيتها وتعود، ترى مجزرة إرهابية حدثت لطيورها وتركتها جثثا هامدة لم تغادر منهم شيئا ينبض بالحياة. بعدما كانت قد تركتهم في نشاط وحركة وابتهاج باستقبال الحياة.
والعجيب في الملعونة أم علي أنها لا تأكل الكتاكيت ولا البط الصغير، وإنما تمارس إجرامَهَا محبَّة للإجرام، فتقتل ضحياها وتترك جثثهم منتشرة في ساحة القتال بكل فجاجة.
إنها حيوان ابن عرس، أو كما كان يطلق عليها (العِرْسَة) والحقيقة أنه لم يكن أحد يتهور بذكر الاسم مطلقا تشاؤما، ولو نطقه لتبادر جميع أفراد الأسرة بلومه بشدة (ما تقولش اسمها يا ابني اعمل معروف... قول أمّ علي).
لم تكن سيدة ولا بيت من بيوت القرويين مهما تفاوتت قدراتهم المادية يستغني أبدًا عن تربية الطيور، لم يكن ذلك من الضروريات بل من الأساسيات، والحقيقة أن بيوت القرويين كانت منتجة للثروة الداجنة إنتاجا ذاتيا متكاملا لا يحتاج لأي عنصر من عناصره أو مرحلة من مراحلة لشيء من خارج البيت أو القرية، فالصغار يتم تفريخهم من البيض الذي أًنتج من الأمهات التي تم الاستبقاء عليها لهذا الغرض، والطعام كله من بقايا طعام البيت، لا أعلاف ولا أي شيء يُستجلب من الخارج مطلقًا، وعلى مدار العام تجد البيت يقتني عدة أنواع (الإوز والبط بنوعية البلدي والسوداني، والدجاج، وأحيانا الرومي) ولكل نوع منها سمات وطبيعة خاصة، فكل إوزة لها (خُنٌّ) تأوي إليه كأنه بيتها الصغير تعرفه ولا تتعدَّاه، ولم تكن الطيور حبيسة الحظائر المغلقة، خاصة البط والإوز، كان يخرج في رحلات تَرَيُّضِيَّة كل يوم يستمتع بالشمس على شاطئ المصرف، وقد يسبح في الماء، ثم يعود كل إلى بيته وحده في جماعات متآلفة، ولا أنسى مشهد تلك الإوزة التي تم ذبحها فانفصلت رأسها عن جسمها تماما، ثم قامت مذبوحة وانطلقت إلى المصرف وسبحت دون رأس في المياه.
لم يكن ينغص حياة القرويات سوى بسلامتها أم على، ولا أنسى ذلك المشهد المكتنز بالمأساة والملهاة معًا في آن واحد بل في جملتين متتاليتين شتان بينهما...
كانت المدرسة الابتدائية في قرية تبعد عن قريتنا حوالي ثلاثة كيلو مترات فنذهب إليها على الأقدام مارين بعدة عزب وبيوت على الطريق، ولم يكن في المدرسة سوى ثلاثة فصول فقط، فانقسمت الدراسة فيها إلى فترتين، صباحية للصفوف الثلاثة الأولى، ومسائية للصفوف الثلاثة التالية.
كنت من تلاميذ الفترة المسائية، وبعد الظهر مررت وزملائي بسيدة منكوبة من أم علي، وقد قعدت أمام بيتها تندب حظَّها وتبكي مصيبتها، وهي تصرخ بجملتين مثيرتين، وعُدْنَا مِنَ المدرسة قبيل المغرب، فوجدنا المندبة لا تزال قائمة والجملتين تترددان.
كانت تلك السيدة قد اقتنت خمسين كتكوتا وقد وصلت إلى سن يافعة، وقد أخرجتها صباحًا من مخبئها لتستمتع بحرارة الشمس وقد أحاطتها في الجرن بسياج من قش الأرز وقعدت تحرسها، ثم أرادت أن تذهب لبعض شأنها ساعة واحدة، وكان لها ابن في المرحلة الابتدائية، فطلبت منه أن يحل محلها حارسا جالسا على القش بجوار الكتاكيت حتى تعود...
- خل بالك إوعى تنشغل عن الكتاكيت لحظة واحدة.
- ما تخافيش يا أمه أنا حذاكر جنبهم وعيني عليهم.
وكان القشُّ متكأ وثيرا، وضوء الشمس يغري بالمنام، فنام الطفل لم يشعر بشيء، وتمَّ الأمْرُ ظهرًا في انسجام، في عز الظهر أدَّت أم علي مهمتها بكل رشاقة ولم يستيقظ الطفل إلا على عصا أمه التي ألهبته ضربًا وصراخًا.
رَصَّتِ السَّيِّدَة الخسمين (جسمانا) ضحايا المذبحة أمامها وقعدت تندبهم وتشفي ما في صدرها من غيظ، وهي تنادي بأعلى طبقة في صوتها من مقام (السيكا) بأداء (جواب) وقد مطَّت الكلام بسخرية: يا دكتور ميييييزو.
ثم تردُّ بطبقة منخفضة من مقام (الصَّبَا) بأداء (قرار): الفراخ ماتت يا ابن الـــ...
لا أدري ماذا كان اسم ابنها الحقيقي فمؤكد أن ميزو هذا تدليل ساخر.
ومن العبارات العجيبة التي لا تزال تعلق في ذهني، ما سمعته في إحدى الجنازات البشرية... وكانت للجنازات القادمة إلى قريتنا هيبة وخشوع جليلان، خاصة تلك التي تفد إلى مقابر دسيا من القرى البعيدة على مسافة كيلومترين أو أكثر، حيث تأتي الجنازة محمولة على أعناق الرجال طيلة هذه المسافة، وما إن يرى أحد من دسيا مشهدها وهي قادمة من تجاه قرية الشفلق أو الرروضة أو غيرهما إلا ونَبَّهَ أهل البلد جميعًا: (قابلوا جنازة جاية من ناحية كذا...) فلا يبقى رجل أو شاب إلا خرج مهرولا لاستقبالها دون أن يعلم لمن هي، ولو كان على الطعام أو نائما، بمجرد أن يسمع بقدوم جنازة إلا وهبَّ مسرعًا تاركا ما في يده، فتجد رجال دسيا وشبابها يهرعون إلى الزراعية أو السكة البحرية، حتى إذا قابلوا المشهد انضموا إليه ومشى الجميع في خشوع منكسي الرؤوس لا ينبسون بحرف...
كانت للنعوش رؤوس خشبية، فإذا كان الميت من الرجال ألبسوا رأس النعش (طَاقِيَّة) وإذا كانت سيدة لفُّوا رأس النعش (بإيشارب) ليعلم المنضمون إلى المشهد هُوِيَّة الميت فيدعون له أو لها في سرهم بالضمير المناسب. كانت النساء بعويلهن تفارق النعوش على حدود قراهم، فلا يَقْدُم إلى دسيا سوى مشهد الرجال المَهِيب الصامت في خشوع.
أما العبارة التي لا تزال تعلق في ذهني فكانت لشيخ مسن، يمشي خلف نعش ابنه وقد سَنَدَهُ الرجال من الجانبين، يبكي بحرارة، ثم يقطع البكاء ويخاطب ابنه الميت بصوت عال كأنه على يقين من أنه يسمعه: (سايب حمارين في الدار ورايح فين يا ابني..؟!!).
كان الناس يبكون لبكائه في صمت محاولين التجلُّد، ولكنني في سِنِّي آنذاك تعجبت من هذه الجملة التي لا ينفك يكررها... وبعد الجنازة سألت أنيسًا أخي الذي شهدها وكان متأثرا ويبدو أنه يعرف الميت وأسرته، فقلت له متعجبا: (حمارين إيه اللي صعبانين على الراجل، يعني ما صعبش عليه عيال ابنه ولا أمه، وكل الحكاية الحمارين..؟!)
فقال أخي بحزن شديد: هذا الشاب الذي مات كان الوحيد في أسرته الذي يعرف الحساب، وهو الذي يتولَّى كل ما يخص الأسرة من معاملات مالية وحسابات مع الجمعية الزراعية وغيرها، وأبوه وأخوه لا يجيدان سوى العمل في الحقل، ولا علم لهما بأي شيء آخر، وكانا يعتمدان عليه في كل شيء... فالرجل يعني بالحمارين نفسه وابنه الآخر.
تُرى من أين تعلَّم ذلك القروي الأمِّيّ البسيط في ذلك الزمان الاستعارة التصريحية في أوضح نماذجها..؟