الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (34)


خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (34) من قلب قرية دسيا


إنه موعدنا مع الحلقة الأخيرة من مسلسل (الصفقة) الذي كانت تبثه الإذاعة في أوَّلِ الثمانينات من القرن الماضي، حيث سمحت المخابرات بالإفصاح عن بعض قصصها من بطولات مصرية مع العدو الصهيوني إبان مرحلة الصراع المسلح في حرب الاستنزاف، وكانت أولى ثمرات هذه القصص ذلك المسلسل الإذاعي.
كان التحلُّق بآذاننا وقلوبنا حول المذياع أنا والحاضرون من أخوتي وعمتي آمنة في وسطنا للاستماع إلى الحلقة متعة كبيرة، كأننا في أرض الحدث، فالأعمال الإذاعية كانت تجعلنا نكاد نرى بأذنينا، فتتسارع دقات قلوبنا إذا استشعرنا خطرًا على الضابط المصري عز الدين، ونتعجّل الانتقام من الخائن منصور، ولا نعرف إلى أين تصل الأحداث، فكل النهايات متوقعة.
اليوم هو موعد الحلقة الأخيرة، ولكن يا للحظ..!! قبل موعد الحلقة بنصف ساعة اكتشفنا أن حجارة البطارية نفذت تمامًا، والمذياع لم يعد ينطق.. كان شراء حجارة جديدة يتطلب أن ننتظر يومًا أو يومين حتى تذهب عمتي آمنة إلى المحمودية أو دسوق. وهذا معناه أننا لن ندرك الحلقة ولا الإعادة التي كانت في اليوم التالي في موعد مبكر، لم يكن متاحًا توفير الحجارة في الحال، ولم نكن نطيق أن تذاع الحلقة ونحن لا نعلم إلى أي شيء صارت الأحداث؟ ولم يكن المذياع منتشرا بصورة تسمح بأن نستعيره أو ننضم إلى الجيران للاستماع لديهم... لو حدث ذلك مع إحدى حلقات المسلسل دون الأخيرة لتحملناه، وتوقعنا الأحداث من الحلقة التالية، ولكنها الأخيرة التي ليس بعدها شيء...!! يا لكآبتنا وحزننا يومئذ..!!
عميل لليهود اسمه منصور بن الشيخ مساعد الطوبي من أهل سيناء، قبضت عليه المخابرات المصرية، واكتشفت تطابق الشبه تمامًا بينه وبين ضابط مخابرات اسمه عز الدين، إلا إصباع قدم منصور اليسرى كان مقطوعًا، فقرَّرَ الضابط التخلص من إصباع قدمه ليتطابق جسمه مع منصور تمامًا، وكان على الضابط أن يعود للطرف الصهيوني متقمِّصًا شخصية منصور، خادعًا الجميع، أسرة منصور ومخابرات العدوّ، مُكَلَّفًا بمهمة محددة وهي الحصول على معلومات عن المفاعل النووي الصهيوني، وتحديد هُوِّيَّتِه إن كان سلميًّا أم حربيا، لتتمكن مصر من اتخاذ قرار حرب أكتوبر وهي على علم بإمكانات العدو الحقيقية.
واجه الضابط العديد من المخاطر، واستطاع إقناع الطرف الصهيوني متجاوزًا عقبات من كلِّ النوعيات، ووصل إلى ما يريد، وأرسله إلى مصر، وفي الحلقة قبل الأخيرة أحيط الشك به، وكادت مخابرات الصهاينة أن تقتله... ونحن في قلق شديد عليه والحلقة الأخيرة ستضع كلمة الختام.
كنت حينها في الصف الأوَّل الإعدادي وكنت أحتفظ في أشيائي بمحرك صغير، ذلك الذي يكون بداخل اللعب التي تتحرك بالبطارية الصغيرة، سيارة صغيرة أو قرد يدق على طبلة، وكانت هذه الأشياء بدأت تنتشر في القرية نظرًا لسفر العديد من أبنائها إلى العراق، وإرسال مثل تلك اللعب لأطفالهم تعويضًا عن وجودهم بينهم، لا أتذكر من أين حصلت على هذا المحرك الصغير، ولكن عادتي أنني كنت أحتفظ بأشياء كثيرة أتأملها وأنا أشعر أنني سأحتاجها يومًا ما.
قلت في نفسي: إن المحرك يدور بسرعة إذا وصل إليه التيار الكهربائي من حَجَرِيِّ البطَّارية، فالمنطقي أننا إذا أدرناه بالسرعة ذاتها فسوف يعطينا ذلك التيار من طرفي السلك الخارِجَيْنِ منه... وكانت لدينا ماكينة خياطة ولها دواسة تُدَارُ بالأقدام، وفي سرعة أحضرت (دوبارة) من الذي كنت أستخدمه في تطيير الطيارة الورقية، ونزعتُ سير ماكينة الخياطة ذلك السميك، وجعلت من الدوبارة بديلا له فهي تناسب تلك البكرة الصغيرة المثبتة في رأس المحرك، ثم ثَبَتُّ المحرك الصغير وربطته بإتقان موازيًا تماما للعجلة الكبيرة في دوَّاسة ماكينة الخياطة، ووصَّلْتُ ذلك السير المصنوع من الدوبارة بهما، ووضعت المذياع فوق ماكينة الخياطة وقد وَصَّلْتُه بسلكين رفيعين بالموتور، كنت نزعتهما من مكثف قديم معطوب، وكنا نسميه (تَرَانس)، وكان يروقني ذلك كثيرًا، أن أفتح المكثفات وأنزع سلكها... أدرت العجلة بهدوء، وفتحت المذياع، وكانت المفاجأة... لم يصدر صوت!!
سكتُّ برهة... ثم قلت: آآآه لعله ترتيب السِّلْكَيْن، بدَّلْتُ موضع السلكين في مكان الحجارة بالمذياع، وأعدت إدارة العجلة مع دقات قلبي... أوووووووه.
الله أكبر الله أكبر... الراديو اشتغل.
كنت أفعل كل هذا منفردًا، لم أُشْرِكْ أحدًا معي في التجربة، ولم أعِدْ أحدًا بشيء مخافة الفشل، ولم يكن تبقى على موعد الحلقة سوى خمس دقائق... طِرْتُ في بيتنا من بحري لقبلي ومن الشرق للغرب ومن تحت لفوق السطح... أجْمَعُ أُسْرَتي.
يا عمة أمنة، يا عمة أمنة، يا عمة أمنة... حَنِسْمِعِ الحلقة.
واستمعنا إليها كاملة على ماكينة الخياطة.
أنجز عز الدين مهمَّتَه، وعرَفَ الشيخ مساعد مصادفة حقيقَتَهُ، وأن ابنه الحقيقي محتجز في مصر، والذي في بيته ما هو إلا ضابط مخابرات مصري شبه ابنه تماما، فقرر الاحتفاظ به ولم يسمح بعودته إلى مصر إلا إذا تسلم ابنه سليما مكانه، واستجابت المخابرات المصرية لطلب الشيخ مساعد، وفي مكان محدد على شاطئ قناة السويس، كان الشيخ في انتظار ابنه، وضع الضابط عز الدين رجله في القارب بينما كانت رجل منصور تخرج منه، فتلقَّفَهُ أبوه في حضنه، وطلب من القارب الانتظار قليلا ريثما يطمئن أن ابنه سليم.
كان الشيخ مساعد ينتظر ابنه وبجانبه ابنته سَحَر، وهو يخفي خِنْجَرَهُ في يده، اندفع منصور إلى حضن أبيه، فاحتضنه بكل قوته، بينما خنجره كان ينغرس في قلب ابنه.. ليصرخ منصور: ليش خنجرك وَكَل قلبي يا بوي..؟!
وصوت سَحَر: إيه دا يا بوي... لِيش طعنت أخوي بخنجرك يا بوي..؟
ثم صوت الشيخ (مساعد الطوبي) ممتزجا بالبكاء: عشان أطهَّرُه من الخيانة يا سَحَر.
كنتُ أُدِيرُ عجلة دوَّاسة ماكينة الخياطة بيدي اليُمْنَى لأضبط سرعة حركتها، بينما يدي اليسري تمسح دموعًا وطنية شاركنا جميعًا الشيخ مساعد فيها ممتزجة بدموع الفرحة لعودة ضابطنا سالما

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products