الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (9)


خزانة الأديب : الحلقة التاسعة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :

لا أظن أن منزلا في قريتنا كان أقدم من مسجدها، ولم يكن أحد في القرية يعرف متى تم بناؤه، فأكبر أهل القرية سنًّا نشأ فوجده على هيئته، وما أعجبها من هيئة، هو على أرضية مرتفعة عن الشارع فتصعد إليه على بضع درجات، ثم تجد الحمامات مصطفة عن يمينك، وأمامها مساحة مربعة ضلعها حوالي خمسة أمتار مكتظة بالأشجار الضخمة وكأنها غابة صغيرة، عن يمين تلك الغابة صهريج الماء، وهو مبني من الطوب ومسقوف فيبدو كحجرة صغيرة مليئة بالماء، وبجانبه الطرنبة وبجوارها بئر عميقة مبنية من جوانبها بالطوب بناء دائريا دقيقا قطره متر تقريبا وفيها على الجانبين فتحات على مسافات متسقة كسلم لمن ينزلها، وبجانب البئر مساحة متر ونصف في حوالي 4 أمتار خصصت للنَّعش وكنبة الغسل، قابعان على أهبة الاستعداد دائما...
وأمام النعش تصطف حنفيات الوضوء، وأمامها مساحة مطلة على الغابة الصغيرة، وفي هذه المساحة باب المصلى.
كان للمسجد بهيئته هذه مهابة حتى في وضح النهار، فلو دخلته منفردًا ولم يكن فيه أحد ونظرت إلى النعش بأرجله الأربع ورأسه الخشبية الصغيرة كأنه شبح لميت، ونما إلى أذنيك صوت قطة أو أية حركة بين الأشجار لوليت منه فرارًا، ولملئت منه رعبًا في عز الظهر دون أن تجرؤ على الالتفات خلفك... وكم من رجل فعلها.
ومما زاد الطين بلة والمريض علة أنه كان أن دهس القطار غريبا على المزلقان على بعد أربعة كيلومترات من قريتنا، وجيء به ليُغسل ويدفن في مقابرنا، ووضع على كنبة الغسل في موضعها، وبدأ الرجال يغسلونه والدم يسيل منه ممتزجا بالماء إلى أحد الحمَّامات، فظلت لهذا الحَمَّام من ذلك اليوم ريبة خاصة، فلم يجرؤ على دخوله إلا من لم يحضر الواقعة أو أقوياء العزائم، ولا تعجب إذا سمعت أن أحدهم دخل المسجد ظهرا، ولم يكن فيه أحد فدخل حمَّامًا، وبمجرد أن أغلق بابه سمع صوت باب (الحمام أبو عفريت) يتحرك فإذا به يفر مسرعا إلى خارج المسجد....
رغم كل ذلك كان أبي قد ألِفَ المسجد في الظلام الحالك قبل الفجر بساعة، ليس سوى ضوء النجوم المتسلل عبر الأشجار من المساحة غير المسقوفة...
وذات ليل بينما أبي يتوضأ وأمامه النعش وكنبة الغسل على بعد مترين، سمع صوت قط من قلب النعش يتحدى سكون الليل بصوت رفيع حاد: نيااااو.
نظر أبي لمصدر الصوت وقال: بِس.
فرد الصوت: نيااااو... وكأنه يرى أبي من حيث لا يراه، أدرك أبي أنه يواجه مجهولا، فتملك أعصابه، وأعادها للمرة الثانية متماسكًا وبحدّةِ من لا بديل له عن الثبات: قلنا بِس.
فإذا بالصوت يرد مُنَغَّمًا ممطوطًا: نيااااااااااو.
وقف أبي وهو لا يشك بأنه يواجه أمرًا لا يستبعد أن يكون روحا ما، لكن لا بأس من المواجهة مهما كانت، فقال بتحدّ: لا دا أنت مش قط بقى..؟!!
قالها أبي وهو لم يكن يتوقع مطلقًا أن أنيسًا أخي ابن 12 عاما يجسر على أن يسبقه إلى المسجد في هذا الوقت، بل يرقد داخل النعش ذاته ويعمل عملته..!!!
بعد رد أبي الأخير أطل أنيس برأسه:
أنت ما خفتش يا با...؟!
فقال بعد أن تنفس الصعداء: لا يا أنيس ما خفتش بس ما تعملهاش في حد تاني...
----------------------
ولعل للحديث بقية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products