الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (10)


خزانة الأديب : الحلقة العاشرة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :

الفرق بين الإنسان وسائر الكائنات الحية أن للإنسان حياتين، حياة فانية في الدنيا، وأخرى باقية في الآخرة. أما الحيوان فله حياة واحدة فانية يؤول منها إلى العدم...
أن يكون العابر إلى العدم أكثر حكمة من الذي سخَّر الله له الكائنات، ومنحه حياة أبدية، فهذا ما يُخْلف دهشة لا تنتهي...
لم تكن القرية في ذلك العهد (أية قرية) تستغني عن أن يقتني بعض أهلها جملا أو أكثر، لم تكن بيئتنا صحراوية، وإنما كانت حياتنا بدائية، فالجمال هي الوسيلة الوحيدة لنقل المحاصيل من الغيطان إلى الأجران، حيث يتم دهسها أو درسها ثم تذريتُها...
كان الجمل يحمل نصف حمل سيارة، ولا يحتاج لطرق ممهدة ومستوية، بل يتنقل عبر الأراضي الزراعية المليئة بالقلاقل...
ولم يكن الجمل سهل القياد هيِّن الانقياد، وإنما لا بد له من جمَّال، ينيخه فيبرك على أطرافه الأربع، ثم يرص أعواد القمح عن جانبيه وفوقه، حتى إذا صار الحمل كالتل، أحكم ربطه لئلا يختل، ثم يستنهض الجمَّال جمله فينهض به إلى الجرن، قاطعا أطول المسافات باحتمال وثبات...
كان للجمل أُلفة خاصة مع صاحبه، فلا يأكل إلا من يده في شهور صيامه، وللجمال ثلاثة أشهر صيام متواصل لا يمدون أفواههم خلالها إلى طعام مطلقا، ما لم يضعه أصحابها بأيديهم في أفواهها...
إذا كثر المحصول ولم تكف لنقله ثلاثة جمال كانت في قريتنا، اسْتُقْدِم جمالون وافدون لتلك المهمة، ولا أنسى ما كان من خبر أحدهم مع جمله، لم يكن الجمل يعيش معه في منزل واحد بل في حجرة واحدة واسعة، وكان له بمثابة الصديق والعائل، فكان يعيش وأسرته على ما يجلبه الجمل مقابل حمل الغلال من الحقول إلى الأجران في مواسم الحصاد... وذات يوم أناخ جمله ليحمله بعيدان القمح، وبعد أن أتم حمله استنهضه فلم ينهض، وحرن الجمل لسر لا يعلمه إلا الله...
- قد تكون رِجْلُه منملة ويحتاج لدقائق ريثما يزول التنميل.
- وقد يكون شعر بمغص مفاجئ.
- وقد وقد...
أليس كائنا حيّا.. ؟!
ولكن البشر لا يشعرون، فلم يشفق عليه صاحبه، وبدأ يضربه بالعصا الخيزران، وأوجعه ضربًا غير مبالٍ بقيظِ الحرّ ولا ثقل الحمل الذي ينبغي أن ينهض به، وظل يضربه حتى نهض الجمل إشفاقا على نفسه من لهيب العصا...
وبينما صاحبه يقف خلفه، رأى جميع الحاضرين ما لم يتوقعه بشر؛ لقد رفع الجمل إحدى رجليه الخلفيتين وألصق خفها بصاحبه ثم دفعه بهدوء، وكأنه يعاتبه ويقول له برفق: (لقد أوجعتني)...
ولو شاء لرفسه رفسة قضت عليه..!
بكى الرجل ندما وخجلا، وانحنى على جمله يقبل خُفّي قدميه الأماميتين... فَرَغَا رُغاءَ الرِّضا.
لَكمْ كان الجمل حكيمًا، وكان الإنسان غشيمًا...
----------------------
ولعل للحديث بقية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products