خزانة الأديب : الحلقة الثامنة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
قبل أن أولد بحوالي عام كان أبي قد ترك منزلنا في الحارة القبلية، وبنى بيتا في أرض لنا مجاورة للقرية وهي حدها القبلي، فكان ظهر المنزل للأرض الزراعية قبلي القرية وهو مطل على القرية أمامه عند ملتقى الجانبين الشرقي والقبلي منها، تتصدره براندة بعرض ثلثي البيت، إذا وقفت فيها فإنك ترى جانبي القرية الشرقي والقبلي...
لم تكن الكهرباء قد امتدت لقريتنا حتى منتصف السبعينيات، ولم يكن المذياع منتشرا في البيوت، والذين يحملون ساعات في القرية كلها يعدون على أصابع اليدين منهم جدي وأبي، ولم تكن ساعاتهم تُلبس في اليد، وإنما تربط بسلسلة طويلة يثبت طرفها في عروة من عرى الصيديري، وتوضع في جيب خصص لها في الصيديري يُسمَّى: (جيب الساعة) وتُملأ بإدارة مسمارها كل حين.
وفي شهر رمضان الكريم كان أهل القرية يتسحرون مع دقات طبلة المسحراتي، وكانوا يمسكون عن الطعام مع دقات دورة أخرى من الطبلة للإمساك، ففي الدورة الأولى ينادي المسحراتي: (اصحى يا نايم وحّد الدايم) وفي الدورة الثانية ينادي: (ارفع المية).
لم يكن صوت المؤذن وهو داخل المسجد يصل لأكثر من ثلاثة بيوت حول المسجد، فكيف يعلم أهل القرية بالفطور...؟!
كان أبي طوال الشهر الفضيل يؤذن المغرب من براندة منزلنا وهو يلتفت بوجهه مرة إلى الجهة القبلية ومرة إلى الجهة الشرقية، فيصل صوت أذانه إلى نصف أهل القرية تقريبًا، ولا أدري في ذلك الزمان هل كان أحد يقوم بهذا الدور في الجهتين البحرية والغربية للقرية أم لا.
وبعدما مات أبي تولى أخي أنيس مهمة الأذان من براندة منزلنا في رمضان، لأن أخي الأكبر عبد البديع كان قد دخل الجامعة وأقام في طنطا وتغيَّب عنَّا، وعندما وصلت سني 12 عامًا أذَّنْتُ أنا لعامين متتاليين... ثم دخل مكبر الصوت إلى المسجد، وتم تعليقه في شجرة أعلى من كل بيوت القرية... فتوقف الأذان من براندة منزلنا.
كانت لأبي العديد من الأعمال؛ فبجانب أعماله الحرة البسيطة؛ كان موظفا في الجمعية الزراعية، وظيفة موسمية مرتبطة بموسم القطن، حيث كان عضوا في نقابة الوزانين، وأظنها موجودة إلى الآن، وكانت تعتمد عددا محدودا على مستوى بَرِّ مصر يجتازون اختبارات في الحساب والتعامل مع الموازين الثقيلة، ويتم توزيعهم كل عام على دوائر يتجمع فيها قطن مصر كله للقيام بمهمة الوزن وحساب القناطير، ولهم إدارة ويمر عليهم مشرفون، ونظرا لندرتهم فقد يكون من حظنا أن يقضي أبي الموسم كاملا قرابة ثلاثة شهور متتالية في صعيد مصر، يرسل لنا خلالها بعض الخطابات عبر البريد..
أما أهم ما كان أبي منشغلا به فهو المسجد، ظل إلى أن أقعده المرض يذهب إليه يوميًّا قبل الفجر بساعة، وما أدراك ما ظلام الليالي في بلد لا يعرف الكهرباء ولا تعرفه الكهرباء؟ لم تكن هذه الساعة للصلاة، وإنما لعبادة أخرى... كانت لصيانة المسجد، إصلاح صنبور... بناء جزء متهدم من الصهريج... وغير ذلك. فقد كان أبي يجيد جميع المهن (أي والله) هذا طبعا بالإضافة إلى إلقاء خطبة الجمعة تطوُّعًا فلم يكن المسجد مدرجًا في وزارة الأوقاف، وبعدما مات أبي اضطر أخي عبدالبديع لصعود المنبر وهو لا يزال طالبا في الجامعة وظل إلى حين يخطب في الناس.
ذات يوم وأنا في ضمير الغيب سأل أخي أنيس وهو ابن 12 عاما أبانا: (أنت ما بتخافش يا با من العفاريت لما بتكون في الجامع لوحدك في الضلمة دي..؟) فرد أبي مبتسما: لا يا أنيس... وفيه حد يخاف من العفاريت وهو في بيت ربنا..؟ فأضمر أنيس في نفسه مكيدة... ------------------
ولعل للحديث بقية
