الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (7)

خزانة الأديب : الحلقة السابعة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :

ما كان في قريتنا أجَلّ وأعجبُ... مررنا في دراسة تاريخ الأدب العربي بأخبار عجيبة عن مكفوفين، منها أن بشار بن برد وصف لأحد الغرباء مكان دار يسأل عنها، فلم يستطع الوصول إليها، فأخذه بشار من يده ووصل به إلى مكان الدار وأشار إلى بابها قائلا: هذه هي الدار يا أعمى. وأنشد بيته الشهير:

أَعمى يَقودُ بَصيرًا لا أَبا لَكُمُ ** قَد ضَلَّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ

ومر أبو العلاء المعري على فارسيين يتعاركان ويتشاتمان باللغة الفارسية ولم يكن يعرف الفارسية ولكنه أعجب بانفعالهما وتلاسنهما فوقف يستمع، وعندما مَثُلا أمام القاضي سألهما عن شاهد فوصفا أبا العلاء وهما لا يعرفانه، فعرفه القاضي، وطلبه للشهادة، وإذا بأبي العلاء يعيد ما استمع إليه كاملا دون أن يفهم منه حرفًا. أما ما يثير العجب في تغلبه على كونه كفيفًا ما عُرِفَ عنه بإجادة لعبة الشطرنج، يسأل ماذا نقل خصمه، فيقال له: نقل كذا في مكان كذا، فيقول انقلوا عني كذا. وهو يرسم في مخيلته اللوحة بكل ما عليها من قطع له ولخصمه، ويتغلب على خصومه.
لم أعجب كثيرا كغيري من هذه الأخبار فقد وجدت في قريتي ما لا يقل عنها عجبًا، فهذا الشيخ الكبير الكفيف، لم يكن ينقطع عن المرور على غيطه للاطمئنان على زرعه، وكانت له مطية (حمارة) يوجهها حيث يشاء فتفهم وتتجه لا تميل ولا تحيد. وذات ليلة أراد أن يطمئن على زرع الأرز، فتوجه إليه، ووقفت الحمارة على رأس الحقل حيث تقف كل مرة، فنزل بجانب شجرة يعرفها، يبدأ منها تَفُقُّدَ الحقل ويعود إليها ليمتطي مطيته... مشى على اللَّحْف (الحد الذي يحيط بالأرض الزراعية ويفصلها عن القناة التي تسقيها ويحجز الماء فيها، وكذلك قد يفصل بين حقل وآخر) فاكتشف أن أحد المطالق (فتحة صغيرة في اللحف ليمر الماء منها يتم سدها بالطين بعد امتلاء الحقل لئلا يعود الماء في القناة) لا يزال مفتوحًا فانحنى وسده بالطين.
عاد الشيخ إلى منزله وبين الحقل والمنزل أكثر من 2 كيلومتر، فاكتشف أن الريال الذي كان في جيب الصديري سقط منه، أعاد الشيخ شريط مسيرته في رأسه، فتوقع أنه سقط في أثناء الانحناء لسد المطلق، فقام من فوره بعد أن آوى إلى فراشه في منتصف الليل، وأخرج مطيته ووجهها إلى حيث كان، وانحنى وأخرج رياله من بين الطين  ...
-----------
ولعل للحديث بقية