الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (6)


خزانة الأديب : الحلقة السادسة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :


من دستور قريتنا في ذلك العهد أن الحزن جماعي والسعادة فردية...
لم يكن عدد البيوت في قريتنا يتجاوز مئة بيت، والمزارع تحيط بالقرية من جميع الجهات، وهي على ربوة مرتفعة عن مستوى الأراضي الزراعية بحوالي مترين في مساحة شبه دائرية، ولعل هذا الارتفاع كان متعمدا لتفادي آثار فيضان النيل، فرغم صغر حجم قريتي فإنها مغرقة في القدم، ليس من قَبْل السد العالي بل من قبل أكثر من ألف عام، فكانت وحدها ولم تكن حولها أية قرى على مسافة خمسة كيلو مترات من جميع الجهات، فهي تعود إلى العصر القبطي، وهي مدونة في السجلات الرسمية باسم (دسيا الكنايس) وليست فيها كنائس ولا مسيحيون.
تبدو القرية كلها على تلك الربوة كما لو كانت بيتا واحدا كبيرا له أبواب متعددة، فتسعون في المئة من البيوت متلاصقة، وتتخلل تلك الكتلة السكنية حارات ضيقة مسدودة في نهايتها بباب أحد البيوت، وفي الناحية الغربية من القرية قامت المقابر في مساحة دائرية أقل من القرية قليلا، وأعلى منها بحوالي مترين، ولعل ذلك أيضا لتجنب آثار الفيضان، ولا تعجب من مساحة المقابر التي تقترب من مساحة القرية ذاتها، فقد كانت تستقبل الموتى من جميع القرى الحديثة التي نشأت في الأراضي الزراعية حول قريتنا في محيط قرابة أربعة كيلو مترات من جميع الجهات، فلم تكن لهم مقابر، حتى إنهم كانوا يَدعون على أنفسهم متفكهين بقولهم: (يا رب تروح دسيا) كناية عن الموت.
أما تلك الرَّبْوَتان اللتان نشأت عليهما قريتنا والمقابر فلم تكونا من أرض طينية تصلح للزراعة وإنما هي مالحة مُسَبَّخَة رمادية اللون محاطة بالأرض السمراء من جميع الجهات، ويبدو أن قريتنا أقدم من النيل ذاته فغالبا تلك المساحة الصغيرة لم تمسسها مياه الفيضان من الأزل.
ولعل وقوع المقابر في الجانب الغربي من القرية لم يكن مصادفة، إذ ربما تكون منحدرة من العصر الفرعوني، كما هو ثابت في الثقافة الفرعونية.
وَعَوْدًا لما بدأت به من كون الحزن جماعيًّا، كان إذا مات أحد من القرية تأجلت الأفراح في القرية كلها لمدة قد تصل إلى العام، ثم من أراد أن يقيم عُرْسًا فكان عليه أن يستأذن أهل الميت أولا حتى ولو لم يكن من جيرانه الأقربين فالقرية كلها جيرة.
لم تكن إقامة الأعراس فقط هي المحظورة، وإنما كل مظاهر الفرحة أو روقان البال...
وما أدراك ما منتهى مظاهر البهجة بين هؤلاء البسطاء..؟!
قد تتعجب إذا علمت أن أهل الميت والجيران وجيران جيران الجيران كانوا يمتنعون عن عمل (المحشي) لشهور باعتبار أن للمحشي بهجة لا تليق بمقام الحزن...
وإذا تجرأ أهل بيت وأرادوا أن يكسروا المبدأ قبل أجله فإنهم يدخلون الكرنب إلى بيتهم سرًّا ويأكلون المحشي في الخفاء.
ولا تعجب إذا سمعت إحدى السيدات التي مات زوجها تذكر جارة لها بعتاب شديد لأنها عملت المحشي قبل المرحوم ما يرَبْعن (أي يمر على وفاته أربعون يومًا).
-----------------------
ولعل للحديث بقية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products