خزانة الأديب : الحلقة الخامسة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
في بيوت القرى كانت الزرائب الخاصة بالبهائم جزءًا من المنزل، ولها باب خاص على الشارع، وباب آخر داخلي في المنزل ذاته، فتبدو الزريبة كما لو كانت حجرة من حجرات البيت... من ذلك الباب الداخلي تدخل الحريم لمهمة الحلب، وقد يتفقد رب البيت مواشيه في أثناء الليل كلما قلق من نومه أو سمع أية أصوات منذرة بخطر اللصوص، أما الباب الخارجي فهو للبهائم تروح وتغدو من خلاله إلى الغيط، ويرتبط الفلاحون بمواشيهم التي كانوا غالبا يحتفظون بها لسنوات في ذلك العهد البعيد، ولقد رأيت من أحوال تلك البهائم ما هو جدير بكتابته وإعادة قراءته.
كان إذا مات أحد أفراد الأسرة انشغلوا بميتهم عن بهائمهم، فكان الجيران يقومون بالواجب فيضعون الطعام لبهائم الميت، ويُقسم كثيرون أن البهائم كانت تمتنع عن الأكل في ذلك اليوم حزنًا على موت صاحبها، الذي كان يطعمها بيده لسنوات.
ولا أنسى ما حدث في إحدى أسر القرية حيث كانت لهم جاموسة، اقتنوها لسنوات طويلة فارتبطت بهم وارتبطوا بها، وكانت تُنْتج كل عام وليدا، وقد اعتاد رب الأسرة أن يربي أحد العجول ليبيعه، وأن يذبح العجل الذي يليه في العام التالي طعامًا لبيته وصدقة على جيرانه، وهكذا كل عام. وكان من أخلاق تلك الأسرة ألا تذبح العجل أمام أمه، بل يسحبونه من جوارها في هدوء، وتظل مربوطة في مكانها، ثم يذبحونه في حجرة مجاورة للزريبة دون أن تشهد هذا المشهد، وكانوا يحرصون على ذلك كل الحرص، إلا في ذلك اليوم الحزين؛ حيث خلعت الجاموسة الوتد المربوطة فيه، وانطلقت تبحث عن ابنها، ثم رأته مذبوحا معلقا في سقف الحجرة والرجال حوله يُقَطِّعونه، وسادت لحظة صمت وذهول من الجميع لدقيقة، فالجاموسة واقفة على الباب تنظر لولدها والدموع تنزل من عينيها، وقد رأى الرجال دموعها، فأطرقوا رؤوسهم صامتين لا يدرون ماذا يفعلون، حتى أنهت الجاموسة الموقف بعد أن ودعت ولدها وملأت عينيها من لحمه المتقطع بين أيديهم، فاستدارت منكسرة، وعادت إلى مرقدها.
رأى الجميع هذا المشهد النساء والأطفال والرجال.. أما النساء فانتحت كل واحدة منهن ركنًا في المنزل وأخذت تبكي بحرارة تعاطفًا مع الجاموسة في نكبتها، وأما الأطفال فوقفوا على باب الزريبة ينظرون إلى جاموستهم بعطف وكأنهم يعزونها، وأما الرجال فتركوا العجل لأكثرهم جلدا وتحملا ليكمل عمله فيه.. أما ما اشترك فيه الجميع فأنهم لم يستطيعوا أن يقضموا قطعة من لحم هذا العجل فتصدقوا به كله على الجيران. وبعد أيام قرر كبير العائلة أن يبيع تلك الجاموسة، وباعها بالفعل، فلم يعد بمقدورهم أن تعيش معهم في منزل واحد، وتضاربت الأقوال بين أهل القرية في تفسير سبب بيعها، فقال بعضهم: لقد أرادوا أن يبعدوها عن أعينهم حتى لا تذكرهم بهذا الموقف العصيب، بينما رأى آخرون أنهم خافوا من أن تحمل الضغينة في قلبها فتنتقم يوما لوليدها فترفس أحد أبنائهم في مقتل. -----------------
ولعل للحديث بقية...
