الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (4)

خزانة الأديب : الحلقة الرابعة من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :


لم يكن ذلك أمرًا هينًا مطلقا، ولا خبرًا عاديّا، بل إنه كان بمثابة إصدار حكم بالإعدام على أحد الأشخاص وانتظار تنفيذه... عندما يقرر أحد أبناء قريتنا قراءة (عدية يس) على مجهول أذاه بسرقة شيء له أو إفساد محصول أو نحو ذلك...
كان أهل قريتي مؤمنين إيمانا صادقا بأنه من تُقرأ عليه عدية يس فإنه هالك في الدنيا لا محالة، وأن ذلك يتم عاجلا لا آجلا، فإذا تعرض أحدهم لشيء من الأذى الخفي، وعجز عن إثبات التهمة على جانٍ ما أو معرفته أرسل في البلد من يدور على الجميع معلنا على سبيل المثال: (يا أهل البلد، فلان اتسرقت من عنده مِعزة، وحيقرا عدية يس يوم الجمعة الجاية).
ونظرا لخطورة هذا القرار كان بعض المقربين من المنكوب يحاولون إثناءه عن قراءة عدية يس، ولكن الغالبية كانت تؤيد القرار على اعتبار أن الجاني يستحق ولا ينبغي الإشفاق عليه، خاصة وأن قراءة العدية يكون بعد مدة من ارتكاب الجريمة للتتاح للجاني فرصة مراجعة ضميره والاعتراف بجريمته...
وبالفعل ما إن يُعلن بجدية عن قراءة عدية يس إلا ويسارع أغلب الجناة معترفين سرا لبعض عقلاء وحكماء القرية فترد المسروقات في ستر وكفى الله المؤمنين قراءة عدية يس ذات السر الباتع...
ولكم سمعت في طفولتي عن فلان الذى مرض ومات في خلال شهر واحد بعدما قرأ علان عدية يس من أجل كذا وكذا...
أما عن كيفية قراءة العدية فكان يُستجلب لذلك مشايخ من خارج بلدتنا يجلسون في دار المنكوب ويقرأون سورة يس أربعين مرة بنية تعجيل الانتقام من الجاني ويسألون الله ذلك في آخر القراءة.
أما الاتهامات لأشخاص محددين في عائلة واحدة فكانت غالبا تنحسم بيمين على المصحف... ولكن من أين لهم بالمصحف الذي يحلفون عليه...؟!
(...والله العظيم لو ما ظهرت لجيب الشيخ عبد السلام عبد البر بالمصحف بتاعه والكل ها يحلف عليه) هكذا كان يتوعد المنكوب...
ما كان أشدها من لحظات على أبي -يرحمه الله- عندما يأتيه أحدهم مستنجدًا به وبمصحفه، فكم لكتاب الله من الإجلال والمهابة، فيرتعد الإنسان إذا مد يده ليضعها على المصحف الشريف قائلا: (وحياتك يا دي المصحف...) حتى لو كان صادقا في يمينه، ولكم كان أبي يحاول تجنب هذا المشهد ما استطاع، فإذا غُلِب على أمره وأحيط بالإلحاح والإحراج انطلق مع القوم مصلحا ومحلفا بالمصحف إن لزم الأمر...
وليسامحني أبي -رحمه الله- فسوف أفشي سرًّا الآن ظل في البئر قرابة خمسين عامًا، ولا يعرفه أحد من أهل قريتي...
إن الذي كان يحمله أبي ملفوفًا بعناية، ويضع المتهمون يدهم عليه مقسمين لم يكن إلا ورقا أبيض أعدَّه أبي لهذه المواقف المحرجة، فقد كان -رضي الله عنه- يجلّ كتاب الله من أن يكون عرضة لأيمان هؤلاء البسطاء المساكين، وأن يُحمل لهذه الأغراض...
أما مصحف أبي الحقيقي فلم يكن يبرح بيتنا محفوظًا في مكانه علي الرف الصغير في الركن الذي كان عن يمين مقعد أبي على كنبته في تلك الحجرة التي حولناها لمندرة مفتوحة على الفراندة لا يُغلق بابها ليل نهار إلى اليوم...
---------
ولعل للحديث بقية...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products