الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (26)


خزانة الأديب : الحلقة (14) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :


في طريقي من المدرسة في المرحلة الابتدائية كنت أمر عليه وأنا عائد كل يوم مع رفاقي، ولم أتحدث معه يوما في أي شيء، فما يفصلني عنه لم يكن جيل واحد بل أكثر من جيل، يفصلنا صِفْرٌ كامل، وما أدراك ما تفعله الأصفار؟ فأنا ابن ثماني سنوات أستقبل الحياة، وهو ابن ثمانين يستدبرها.
رغم ذلك كنت أحبُّ أن أنظر إليه بملء عينيّ وأراقبه حتى أمر من أمامه، وأشعر أنني أنظر لرجل من أهل السماء وليس من أهل الأرض... شيخ كبير وقور، يلبس عباءة فاخرة، وله وجه أبيض مستدير كالقمر، وشارب كث فضِّيّ اللون، وقد قعد على حجر رحا ضخم من المرمر الأبيض، يقال إنها الأثر الوحيد المتبقي لماكينة طحين كانت بالقرب من ذلك المكان، لم يرها أحد من جيلي، كان يقعد عليها يستمتع بالشمس في الأيام الباردة، وبالهواء في الأيام الحارة، وقد ارتكز على عصا عوجاية أمسكها بكلتا يديه وجعلها تحت ذقنه.
ظللت لسنوات أمرُّ عليه وأنظر إليه بإجلال فطري لا أعرف سببه، ولا أعرف عنه إلا أنه الشيخ (سعد شُكْر) ولم أسمع صوته يومًا... إلى أن تُوُفِّيَ عليه رحمة الله تعالى.
وفي يوم وأنا في المرحلة الثانوية دار حوار بين بديع وأنيس وبعض رفاقهما حول موضوع القَدَر، وهل الإنسان مُخيَّر أم مُسَيَّر وأنا بينهم أسمع وأسكت، ففوجئت بأنيس يقول إنه دار بينه وبين الشيخ سعد شكر هذا الحوار يوما:
- عندي سؤال محيرني يا شيخ سعد.
- إيه يا أنيس؟
- طالما ربنا سبحانه وتعالى عارف إننا حنعمل الذنب بيحاسبنا عليه ليه؟
نظر الشيخ سعد حوله فرأى دكة خشبية أمام دار عم بسيوني شكر -رحمه الله- فقال لأنيس وهو يشير إليها:
- شايف الدكة دي؟
- أيوه.
- مين اللي عاملها؟
- النجار.
- هي تقدر تقول للنجار أنت عملتني ليه كده، ولا تقدر تعترض على إرادة النجار لو عملها كرسي أو حتى فكها وولع فيها..؟
- لا طبعا.. هو حر دي ملكه.
- إحنا مع الله -سبحانه وتعالى- كده بالظبط، مِلْكُه وصنعتُه يفعل فينا ما يشاء، ومالناش نقول ليه وبتاع إيه، علينا إننا نطيعه ونأتمر بأوامره وننتهي عن نواهيه، وإحنا موقنين بأنه بيحبنا زي النجار ما بيحب الدكة اللي هو عملها.
كنت أستمع مشدوهًا لتلك الإجابة، فسألت أنيسًا:
- الشيخ سعد مين..؟!
- الشيخ سعد شُكر الله يرحمه ما توعلوش انته يا إيهاب.
- ما أوعلوش إيه..؟! مش الشيخ سعد اللي كان بيقعد على حجر الرحايا...
- أيوه هوه.
- هو كان عالم..؟
- دا كان عَالِم كِبِير، وعنده مكتبة عظيمة...
يا الله...!! هل كنت طوال المرحلة الابتدائية أمر على هذا العالم وأظنه أمِّيًّا لا يعرف القراءة..؟! ما أتعسني، ربما لو كنت أعرف لاقتربت منه وجلست معه وتعلمت كثيرًا كثيرًا، وقد كان على الرحا المرمري متسع لطفل في سني... قلت في نفسي وأنا أتدبر إجابته: كيف لا نكون مؤدبين مع الله تعالى بينما الدكة مؤدبة مع النجار. وإن لم نكن دككا فإن الله ليس نجارا وتعالى سبحانه عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
تُرى ماذا كان فيكِ يا دِسْيَا من جواهر ولالئ جعلتك تفترقين عما يحيطك من قرى، ومن أي عهد في الزمان انحدرتِ يا قريتي العزيزة..؟ وكيف تكونت بك تلك المنظومة العجيبة من المبادئ وكأنها دستور غير مكتوب لأهل القرية جميعًا..؟
لم تنزل دِسْيا من السماء، ولم يكن أهلها ملائكة، فكان يحدث بينهم ما يكون بين البشر من خلافات بل معارك أحيانا، فعرف أهل قريتي الخصومة، ولكنهم لم يعرفوا الفجور في الخصومة، ولا حتى التمادي فيها، وكثير من المعارك بين العائلات في قرى مجاورة كانت تنتهي بإصابات خطيرة، وأحيانا قتلى إلا دِسْيا لا يمكن أن يصل الخلاف لشيء من هذا. لا أذكر أن أحدًا جُرِحَ في يوم من الأيام... ويكفي أن يحدث أي أمر كموت شاب، أو حريق في منزل، أو أي أذى لأي فرد من القرية... أي شيء من هذا كان جديرًا بأن يعود الجميع على قلب رجل واحد.
مما اعتاده أهل القرى عندما تقع خلافات بينهم، وتصل إلى تحرير محاضر في قسم الشرطة، أن يزج كل طرف بأسماء نساء الطرف الآخر في المحضر كنوع من النكاية لإهانة الحريم في الأقسام، إلا دسيا لم يحدث هذا فيها مطلقا، بل إن الخلاف كان يقع بين الرجال وتظل نساؤهم على التواد والتواصل.
أذكر أن خلافًا كبيرًا وقع بين عائلتي وأخوال أبي عائلة الرامخ من جهة وعائلة شكر من جهة أخرى بخصوص طريق، ووصل الخلاف لتحرير محضر في القسم، وانتشر خبر الخلاف في جميع القرى المجاورة، وذات يوم والخلاف محتدم بيننا، كان أنيس أخي عائدًا من عمله في بنك القرية بالمحمودية وكان الوحيد من دسيا في سيارة نقل ركاب ومعه رجال من قرى مجاورة، وظن هؤلاء الأغراب أنهم سَيُرْضون أخي فتطاولوا بالكلام على بعض أناس من عائلة شكر. وإذا بأنيس يحمَرُّ وجهُهُ غضبًا ويردُّ مكيلا لهم الصاع صاعين:
- إزاي يا جربوع أنت وهو تتطاولوا بالكلام على أسيادكم..؟!
- أسيادنا مين يا أستاذ أنيس..؟
- أهل دسيا دُول أسياد المنطقة كلها، ومفيش حد من أي عزبة يفتح بقه بكلمة في حقهم قدامي.
- مش أنتم متعاركين وشاكيين بعض؟
- أيوه إحنا مختلفين جوه بلدنا بس، لكن برة بلدنا لا.
سكت القوم كأن على رؤوسهم الطير، فلم يكن هذا متوقعًا مطلقا في ذلك الزمان، وأستطيع أن أحكي لك عشرات المواقف التي تدل على النُّبْل المتبادل بين العائلات في أثناء الخلافات، لعل يأتي سياقها...
أما تواضع الكبار ورحمتهم بالبسطاء داخل القرية فحدِّثْ عنه ولا حرج، وأنقل لك هذا المشهد الذي لا أكاد أنساه:
في يوم دخلت المسجد القبلي في طفولتي قبل صلاة الظهر، وكان مبروك قاعدًا على سور الميضأة مكتئبًا، وكان في المسجد الحاج (سعيد عثمان برغوث) كبير عائلة برغوث، وهي عائلة كبيرة، وكان -رحمه الله- ذا بسطة في الجسم، بشوشا دائم الابتسام، يتسم بالحنوِّ الشديد على الصغار والكبار، إذا تخيَّلت رجلا خُلِقَ من العطف والحنان لكان هو، ويبدو أنه كان بينه ومبروك حوارٌ لم أحضره، وغالبا يكون الحوار من طرف واحد، ينفرد فيه مبروك بوصلة عتاب مغلظ لأي شيء ولو كان بسيطًا لكنه يخص المسجد، ومؤكد أن الحاج سعيد لم يرد عليه، وتحمَّل عُنْفَهُ صابرًا، هذا ما توقعته أنا...
لكن المشهد الذي لا أنساه، هو أن الحاج سعيد كان قد همّ أن يدخل أحد حمَّامَات المسجد، وهو على الباب كأنَّه تذكر شيئا مُهِمًّا لا يمكن تأجيله، فعاد مسرعًا، ثم نادى على مبروك مبتسما: يا مبروك..! فنظر مبروك إليه دون أن يرد.
فقال الحاج سعيد بصوته المرتفع: لما حدّ في البلد بيشتري حمار بنروح نبارك له، وكل الناس بتقول إيه؟ أكيد بيقولوا: مبروك الحمار هاهاهاهاها.
حدَجَه مبروك بنظرة غاضبة... وقد عاد الحاج سعيد سريعًا إلى حمامه وهو يقهقه، أما أنا فكتمت فمي بيدي محاولا كتم الضحك وجريت لأضحك خارج المسجد.

------------
ولعل للحديث بقية..

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products