خزانة الأديب : الحلقة (27) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
قبل أن أبلغ سن المدرسة اتبع أبي –رحمه الله- معي وسائل متنوعة لتعليمي، ولا أزال أتذكرها كلها؛ فمنها التلقين المباشر، ومن خلاله حفظني جدول الضرب والحروف الهجائية، وبعض السور القصار وكذلك الأحاديث النبوية مثل: بُنِيَ الإسلام على خمس... الحديث.
ومن الوسائل العملية التدريب على الكتابة، فكان يكتب الحروف والكلمات مُنَقَّطَة وأمر بالقلم على النقاط لأتعود الكتابة الصحيحة.
ومن الوسائل التي كان ينمي بها ذكائي (الفوازير) فكان يسألني بعض الأسئلة التي تحتاج إلى إعمال العقل، فإن عجزت عن الإجابة أجابها لي موضحا الخطأ الذي وقعت أنا فيه فلم أصل لإجابتها، ولا أزال أتذكر من هذه الأسئلة هذا السؤال:
(واحد ماشي على طريق بين حقلين، حقل به قمح وحقل به أرز، كيف يعرف أيهما عن يساره وأيهما عن يمينه دون أن يلتفت يمينا ولا يسارا..؟!).
فكرت، ولم أعرف الإجابة، وأذكر أن مما قلته إن صوت الهواء في حقل القمح يختلف عن صوت الهواء في حقل الأرز... فقال: لا.
فقلت تكون في حقل الأرز مياه دائمة وبها حركة الضفادع وصوتها، أما حقل القمح فيكون جافًّا لا حركة للضفادع فيه... (برضه لا).
لم أصل لشيء، فقال أبي وهو يبتسم: الأرز والقمح لا يجتمعان أصلا فكل منهما في موسم مختلف.
أذكر أنني حزنت كثيرا لأني لم أصل إلى الإجابة بنفسي، لكني تعلمت من يومها أن أفكر في السؤال أولا قبل أن أفكر في الإجابة، فلعلَّ اللغز في السؤال ذاته وليس في الإجابة، فلا أنخدع من هذا الباب بعد اليوم، ولذلك عندما سُئِلْتُ بعدها بزمن طويل: (قعد أب وأم وابنة وطفل صغير على مائدة، فنظر الطفل تحت المائدة وعد الأقدام فوجدها تسعة.. بم تفسر ذلك..؟) كانت إجابتي السريعة والمباشرة: (عَيّل وغلط الواد غلط في العدّ)؛ وذلك لأن ذهني انصرف مباشرة لصيغة السؤال أولا فقلت في نفسي: لماذا جعل الطفل الصغير هو الذي يَعد..؟!
أما الطريقة البديعة حقًّا التي اتبعها أبي –رحمه الله- في تعليمي؛ فكان يؤلف كلمات تصلح لأن تكون مَوَّالًا وفيه اسمي، وكنت أحفظها وأرددها سعيدًا، وكان يلجأ إلى هذه الطريقة لمصالحتي إذا غضبت من أمر ما، وأذكر من ذلك:
أنا الصَّيِّيت واسْمِي إيهابْ
مَحْلَا الليالي فيها الأحبابْ
النور حَضَرْ والظلام أهُو غابْ
................... إلخ
وهذه الطريقة تحديدًا هي التي حببتني في الشعر صغيرًا، كما كان أبي عندما يرسل لنا خطابا وهو مغترب في عمله الموسمي يخصني وكل واحد من أخوتي ببيتين من الشعر، وليتنا احتفظنا بهذه الخطابات.
في بداية عام 1975 لاحظ أبي وجود شرخ في سور البراندة الشرقي، فَصَلَهَا عن المنزل، ولو تُرِكَ لانهارَ السور مع الوقت، فأحضر قضيبا من الحديد، وأشار إلى بديع وأنيس بِدَقِّهِ ملاصقا للسور تمامًا بحيث يسنده كدعامة فلا يزداد الشرخ عما هو عليه. وقف أبي يُشرف عليهما والقضيب ينغرس في الأرض رويدًا رويدًا بينما أخواي يتناوبان الدقَّ عليه بمطرقة كبيرة... مرت إحدى سيدات القرية فتوقفت وقالت كلمة: (مهنس وعبقري يا عبد السلام، إيه الوعاية دي...؟!).
كانت هذه هي البداية... بداية النهاية، وكأنَّ فيروس سي كان ساكتا فتكلم، أو ساكنا فتحرك، أو كان مترقبا فأخذ إشارة البدء للعمل في كبد أبي من هذه اللحظة تمامًا، ومباشرة، كان أبي واقفا يتابع دق القضيبِ فقعد على مقعد في البراندة وما انتهى أخواي من غرس ما يقرب من متر وبقى متران يسندان الحائط إلا وكان الحائط الأهم في منزلنا بل لكثير من أهل قريتي يحتاج لمن يسنده من دُوَارٍ أحسَّ به (كان عند أبي صندوق فيه العديد من الأوراق المهمة كالعقود وعقود الزواج وقوائم المنقولات تخص بعض أهل القرية يودعونها عنده كأمانة).
- سلامتك يا أخويا.. ما لك يا عبد السلام..؟ أنت اتحسدت ولا إيه؟ سألت أمي.
دخل أبي إلى حجرته ونام على سريره، وجهزت أمي بخورًا كثيرا في إناء واسع، ووضعت عليه قطعة من الشَّبَّة ودخلت تبخره وترقيه، وكان يُعْتَقد أن الشَّبَّة تتحور أثناء الرُّقْيَة متأثرة بنار البخور، فتأخذ شكل الحاسد تمامًا فتدل عليه، فَيُعَاوِدُ الراقي الرقية مع ذكر الحاسد قائلا رقيتك من عين فلان أو فلانة.
- هِيَّ مفيش غيرها... بصُّوا على الشَّبَّة يا ولاد، مش دي فلانة..؟
أحضرت أمي ورقة بيضاء، ورسمت عليها رسما كروكيا لسيدة، وأمسكت إبرة خياطة، وعاودت الرقية، رقيتك من عين فلانة، وهي تثمل عينيها على الورقة... بينما الفيروس كان قد بدأ طريقه وتسلم عمله بنشاط.
يومان والحالة تسوء، وكان لأبي خال قريب من سِنِّه بل أصغر من أبي قليلا (خالي محمد الرامخ عليه رحمة الله)، وكان يلازم أبي كثيرًا فهو له الخال والصديق، وكان لديه الجرار الزراعي الوحيد في البلد وهو الوحيد الذي يقوده، لم يتوانَ فاصطحب أبي إلى الأطبَّاء، وكان الطبُّ عاجزًا أيما عجز في ذلك الحين أمام الفيروس اللعين، لم يكن الطب يتعامل مع المرض وإنما هي مناوشات مع العَرَض، ورغم الأدوية الكثيرة، كان الفيروس مستمرًّا في قتل أبي في هدوء، وأبي لا يُظْهِرُ لنا تعبه إلا ما يغالبه، فيبدو كأنه معافى بيننا.
بعد شهر علم أبي طريقه ويبدو أنه تيقن منه، فدعا إليه أنيسًا، وكان بديع الأكبر ولكنه كان قد التحق بالجامعة في عامه الأول، قال أبي لأنيس أخي: (إذا رحت مشوار يا أنيس وطوِّلْتْ فيه شوية حتعرفوا تعيشوا يا ابني وتاخدوا بالكم من بعض..؟!) لم يستوعب أنيس ما يرمي إليه السؤال مطلقًا، فسأله:
- حتروح فين يا با..؟
- مشوار وخلاص يا أنيس.
- مش مشوار من بتوع الشغل شهرين تلاتة وتيجي؟
- لا.. ممكن أطوِّل المرة دي كام سنة...
- ما تقلقش يا با علينا بس أنا معرفش أنت ناوي تروح فين..!!
في الشهر التالي رأت أمي أن أحدًا نزع إبهام كف يدها اليمنى وأخذه ومضى، وحَكَت لجدي ما رأته، فدمعت عيناه وقال لها: (ابني عبد السلام حيموت).
في الشهر الثالث كانت قد ثقلت حركة أبي، فَكُنَّا نصبُّ عليه الماء بالإبريق ليتوضأ ويصلي الفروض في البيت، ويذهب لصلاة الجمعة مغالبًا الألم.
في الشهر الرابع بدأ أبي يغيب عن الوعي، وعلِّقَتِ المحاليل فوق سريره، وبدأنا نخفي عنه أسماء الأيام ونغالطه فيها، لئلا يصرُّ على الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة فقد نصح الأطباء بألا يتحرك كثيرا.
في الشهر الخامس ازداد توافد العُوَّاد على أبي من كل البلاد، يدخلون إليه مستبشرين ويخرجون باكين، وفي يوم بينما عنده بعض العوَّاد قاعدين على الكنبة أمام السرير أفاق من غيبوبة، فسمع أحدهم يقول: (النهاردة بعد ما صلينا الجمعة...) فأدرك أبي أنه لم يُصَلِّ الجمعة، وقال حزينا: (هو أنا ما صليتش الجمعة..؟! طالما ما صلتهاش يبقى خلاص).
في الشهر التالي كان أبي قد اتخذ طريقه إلى السماء... ماتَ الفتى (عبد السلام عبد البر) وسنه لم يبلغ 45 عامًا. كان الزحام شديدا في حجرته ممن يودعونه من أهل البلد الكل يريد يريد إلقاء النظرة الأخيرة، ولا أزال متذكرا إذ رفعني أخي بديع بكلتا يديه فوق الجميع ووصل إلى وجه أبي: (بص لأبوك كويس يا إيهاب لأنك مش حتشوفه تاني). وصوت من ورائه: (حرام عليك يا أستاذ بديع الواد صغير). فقال: (بكرة يكبر ويفتكر اللحظة دي) ولا تزال ملء عينيَّ.
كنت حينها في الصف الأول الابتدائي، وكنت أجيد القراءة والكتابة والحساب إجادة تامة من قبل التحاقي بالمدرسة، وكان يجلس بجواري (علي عبد السلام عليان) من عزبة الشِّفْلِق، وبعد أقل من أسبوع من موت أبي فوجئت بزميلي علي يقول لي معاتبًا:
- كده يا إيهاب عَدِيتْنِي..؟
- عَدِيتَك في إيه يا علي..؟
- أبويا كمان مات إمبارح... عشان اسمه عبد السلام زي أبوك.
لا زلت أتذكر دهشتي من كلام علي وأنا أقول له: والله يا علي موت الأبّهات ما بِيِعْدِي واسأل لو مش مصدقني.
------------
ولعل للحديث بقية...