الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (25)

خزانة الأديب : الحلقة (25) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :

 

من الأمور القليلة التي ندمت عليها في حياتي هو أنني أدركته وعاصرته لسنوات قليلة قد لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة، وكان قد ترك دسيا وعاش في قرية قريبة من قريتنا، ولم أستثمر معاصرتي له فأقعد بين يديه وأستمع إلى كل أخباره منه مباشرة... خسارة عظيمة لعل الذي تسبب فيها هو ذلك الفارق الكبير بين سني وسنه حين عاصرته، فلم أكن من جلَّاسه، ولو كنت لكتبت عنه عملا يوازي في مكانته حكايات ألف ليلة وليلة، بل ربما يتقدم عليه، لأن حكايات السيد (شعبان عيسى) حقيقية وليست خيالية، وهو نفسه بطلها جميعها، بل صانعها ومبتكرها.
كان يسكن في الجهة البحرية من قريتنا، ولكنه لم يكن يمكث في دسيا أسبوعا متواصلا إلا غادرها إلى بلاد الله شهورا، ثم يعود زائرا لأقل من شهر ثم يعاود تجواله في برِّ مصر، لقد ظل لشهور لا تعلم القرية عنه شيئا، وكان ممن رزقهم الله رونقًا وإطلالة مهيبة، وقدرة على الكلام والإقناع عجيبة. لو دخلت قرية وقابلته لحسبته عمدتها دون شك، أو على الأقل أحد أشرافها العظام، ثم إنه أوتي من الذكاء والدهاء ما لو وُزِّعَ على جيش من ألف جندي عُزَّل لفتحوا العالم.
لم يجد شعبان عيسى مجالا في ذلك الزمان يجني فيه ثمرة ذكائه إلا استغلال بلاهة البلهاء وتغفيل المغفلين من ذوي الأموال وميسوري الأحوال، وكانوا قلة في زمانه، فكان عليه أن يلتقطهم على مدار بَرِّ مصر، وقد عرفت بعض أخباره من جلاسه المقربين.
كان يغيب عن القرية شهورا ثم يعود ليمكث أسابيع، ثم يعاود سياحته، لم يكن أحد يعرف في البداية ما الذي يفعله في غيابه هذا، إلى أن بدأ بعض ضحاياه يتوافدون على قريتنا يسألون عنه، بعد أن يكون قد باع لهم الأوهام، وكأن دسيا الطيبة لم تعد تناسبه، فانتقل إلى قرية أخرى.
لم يكن لقريتنا طريق خاص بها يوصلها إلى الطريق العمومي الرابط بين المحمودية ودسوق، وكان علينا أن نمر من قلب عزبة جنيدي، وفي آخر السبعينات رأى أهل القرية ضرورة إنشاء طريق خاص بدسيا، وبالفعل اجتمع مجلس شورى القرية، وتمت الدراسة والمفاضلة بأسلوب علمي بين (لحف أبو عامر كمدخل للقرية من الجهة القبلية) و(سكة الدنيبة كمدخل للقرية من الجهة البحرية) ولأسباب كثيرة لا داعي لبسطها هنا تم الاستقرار على سكة الدنيبة، فقيست المسافة، وتحدد سعر المتر، وكان على أهل القرية أن يدفعوا ثمن ثلاثة أمتار بطول حوالي 600 متر لأصحاب الأراضي التي سيُقْتَطَع منها الطريق، وقد ساهم أصحابها مشكورين بالجزء الأكبر، وكانت لقريتنا مهارة في تقسيم المبلغ حسب قدرات العائلات وسرعان ما تم جمعه، وخرجت القرية عن بكرة أبيها تحمل الردم وتنشئ الطريق في فرحة تقضي على أي إحساس بالتعب... وفي نهار يوم من أيام إنشاء الطريق لمح خالي أحمد الرامخ ثلاثة غرباء يتحدثون مع أحد شباب القرية وكان أزهريا، ثم انصرفوا، ولم يكن خالي أحمد يرى شيئا إلا سأل عنه، فتوجه إلى الشاب:
- مين الناس الغرب دول؟
- كانوا بيسألوا عن شعبان عيسى.
- وقلت لهم إيه يا جدع؟
- قلت لهم مش في البلد بقاله شهرين محدش شافه.
- بس كده... ما سألتهمش عن أي حاجة؟
- لا... وأسأل ليه وأنا ما لي؟
- آه يا ضلال يا ضلال.. أنت ما اتعلمتش في البتاعة بتاعتك إن الدين النصيحة؟ اجري يا محمود هات الناس دول قبل ما يركبوا حاجة.
أسرع محمود ابن خالي أحمد حتى عاد بالغرباء، كانوا ثلاثة رجال وُجَهاء من قرية تابعة لمحافظة الشرقية، يبدو عليهم الوقار والطيبة، ومشى إليهم خالي أحمد يستقبلهم.
- خير يا رجالة بتسألوا عن شعبان عيسى ليه؟
- زارنا من أسبوعين وباع لنا جرار زراعي من جراراته، وأخد العربون، وإحنا جايبين باقي المبلغ عشان نستلم الجرار.
- دا لا عنده جرارات ولا حتى فُرِّيرَة يلعب بيها، شوفوا حتعملوا إيه، والله يعوَّض عليكم.
كان أحد أبناء قريتي يقضي جيشه في محافظة من محافظات جنوب مصر، ونحن وجه بحري، وذات يوم وهو في طريقه من الوحدة إلى الطريق العمومي يمشي على قدميه في يوم ماطر، والطريق طيني متعب، رأى ما جعله يكاد يفقد عقله، إنه هو... في هذا المكان البعيد... شعبان عيسى، في أبهى ثيابه، وقد ركب حمارًا ليرفعه عن وحل الطريق، وحوله أعيان القرية ووجهاؤها يمشون حوله ليوصلوه إلى الطريق العام في إجلال وتوقير وتقدير لا يكون إلا لولي أو زعيم...
تلاقت العينان، ولمحه شعبان فاغرًا فاه، فأشار إليه بأن يدنو منه، ثم انحنى وهمس في أذنيه: (لو فتحت بقك بكلمة مش حيصدقوك، وأنا مش حقدر أدافع عنك، وممكن يقتلوك ويرموك في المصرف، لو محتاج حاجة استناني على الطريق لما يوصلوني).
فإذا بالجندي يهتف: (بركاتك يا عم الشيخ، دي أسرار عسكرية، عرفها إزاي يا رجالة..؟!).
في ذلك الحين لم يكن يمتلك العباءات إلا العُمَد والأثرياء وأعيان القُرَى، فكانت تُصْنَع من الصوف الإنجليزي الخالص، وكانت باهظة الثمن. كانت العباية دليلا على رفعة مكانة من يضعها على كتفه، حتى إن أحد وُجهاء عزبة عرفان القريبة من دسيا رأى في الثمانينات أحد البسطاء بعد أن عاد من عمله في العراق قد وضع على كتفه عباءة تشبه عباءته، فاستشاط غضبا، وأقسم ألا يلبس العباءة بعد اليوم، ولم يكتف بهذا، بل إنه فَصَّلَ من عباءته بردعة لحماره. وقال: (ما دام ابن فلان لبسها تبقى دي قيمتها).
لم يكن شعبان عيسى لصًّا يسرق في الخفاء، ولم يكن يمد يده في جيب فقير، وجميع حكاياته التي وصلتني تدهشك من وقدة الذكاء وبساطة الحِيَل، وقد يكتنفها كوميديا مضحكة.
دخل شعبان عيسى ذات يوم إلى مِيضَأة مسجد سيدنا الحسين في القاهرة، فلمح أمامه عمدة من عمد الصعيد الجواني، وقد وضع على كتفه عباءة تدل على مكانته وثرائه، وإذا به يضعها على سور المِيضَأة وقعد يتوضأ أمام صنبور، فأخذها شعبان عيسى وقعد يتوضَّأ بجانبه تماما وقد وضع العباءة على ركبتيه، انتهى عمدة الصعيد من وضوئه والتفت فصرخ: (عبايتي... عبايتي يا أبوي وين راحت؟) فسأله شعبان عيسى حزينا: (كنت حاططها فين؟)
- كنت حاططها هِينَه على السور.
فقال شعبان عيسى وهو يشير إلى العباءة على ركبتيه: (يا عبيط ابقى حطها على رجليك زي ما أنا حاطط عبايتي... العباية تتحط كده مش ع السور).
------------
ولعل للحديث بقية...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products