الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (23)
byعثمان جمعة-
0
خزانة الأديب : الحلقة (23) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
عرفتْ قريتنا مبدأ الشورى، وطبقته في أتمِّ صُوَرِه، وذلك في اجتماع
سنوي لتحديد موعد مولد المغازي، ورغم صغر حجم دِسْيَا، كانت لمولدها سمعة
في المركز كله، وكان من أضخم الموالد وأحسنها تنظيمًا، لم يكن الشيخ محمد
المغازي نقيب المغازية ينفرد بقرار إقامة المولد وتحديد اليوم المناسب،
وإنما يعقد لذلك اجتماعا يدعو إليه أهل القرية جميعًا، فيحضر كبير كل أسرة.
لم يكن موعد المولد يتحدد ارتجالا، وإنما يُراعى فيه أن يكون بعد موسم جمع
القطن وتوريده واستلام ثمنه، حيث لا يكون أهل القرية مشغولين بأعمال مرهقة
في الحقول، وكذلك تكون السيولة المالية متوفرة لديهم، ففي أيام المولد
الثلاثة كانت جميع بيوت القرية عبارة عن مائدة مفتوحة على مدار الساعة
للضيوف من كل مكان، وكان على كل بيت أن يستعد لذلك، فيصنع من الطعام
يوميًّا ما يكفي عشرات الآكلين. فكان المولد فرصة لرؤية الأقارب وأقارب
الجيران وجيران الأقارب وأصدقائهم من شتى البلاد. في ذلك الاجتماع يتم
تحديد الموعد وتوزيع المهام، كالانطلاق بالدعوات إلى شتى الجهات لإعلام
البائعين والمريدين لحضور المولد، وكذلك السفر لدعوة الصَّيِّيت الذي سيحيي
الليلة الكبيرة ودفع عربون له، وغير ذلك من تنظيمات وترتيبات... كانت
لمولد المغازي إرهاصات وطقوس خاصة، فتبدأ بأن يجوب (السِّتْرُ) القرية
والقرى المجاورة إيذانا بقدوم المولد بعد أسبوعين، والسِّتْرُ مكعب من
قوائم خشبية، طول ضلعه متران ونصف تقريبا، وله أربعة قوائم من الخشب، ومحاط
بالقماش الأبيض من جميع الجهات ما عدا الجهة السفلى، يحمله الدراويش
والمريدون كرمز لمقام الشيخ، ويجوبون به البلاد، وأمامه فرقة تحمل الطيران
(جمع: طَار، وهو آلة كالطبلة) وهم يدقون عليها ويذكرون الله. كان الناس
يخرجون بأطفالهم الرُّضَّع يدخلونهم تحت السِّتْرِ لتحل عليهم البركة،
ويدفعون التبرعات لتلك الحملة للمساهمة في إقامة المولد، وأغلب التبرعات
كانت عينية من الطيور وحبوب الأرز، فدار الشيخ المغازي تجهز في أيام المولد
من الطعام ما يكفي الآلاف وليس المئات، فيتم ذبح تلك الطيور جميعها لإطعام
مريدي المولد. كانت القرية مليئة بالأجران التي يحتاجها الفلاح في
مواسم الحصاد، اختفت الآن جميعها حيث استغنى الفلاحون عنها بالآلات الحديثة
التي تحصد المحاصيل في الحقول، فامتلأت الأجران بالمباني، وكانت تلك
الأجران من معالم القرى، وتعد متنفسًا وبراحًا مُهِمًّا. في المولد
يحضر بائعو اللُّعَب التي لم نكن نراها إلا فيه، وكذلك تُنْصَبُ الألعاب
والمراجيح العملاقة، وينتشر حول المسجد بائعو الحمص والحلوى مختلفة
الأنواع، وقد أشعل كل منهم كُلُوبًّا أو أكثر... إنه سوق كبير بديع وبهجة
سنوية رائعة. كان يفصل بين مقام المغازي والمسجد البحري جرنٌ واسع،
يُقام في هذا الجرن احتفال الليلة الكبيرة، فيتم نصب المسرح بجانب حائط
المسجد، ويمتلئ الجرن بالمشاهدين أمامه، ويُدْعى لإحياء الليلة صَيِّيتٌ
مشهور، غالبًا يكون الشيخ محمد عبد الهادي من رشيد، وكان نجم النجوم في
عصره. يبدأ إحياء الليلة من الساعة الحادية عشرة مساءً، وحوله الفرقة
الموسيقية، وكان للشيخ محمد عبد الهادي قدرة عجيبة في إدراة ذلك المسرح،
فهو يغني، ويمثل، ويحكي الحكايات، وترافقه الفرقة بالألحان والمؤثرات
الصوتية المناسبة لكل حدث في الحكاية، إنه حالة فنية متكاملة، يتجمع آلاف
البشر لمشاهدته والاستماع إلى القصة التي يحكيها، وتمتلئُ سطوح بيوت القرية
بالنساء اللائي يتابعن القصة بشغف شديد، وتظل السهرة لقرب الفجر، ومن ينام
في أثنائها يسأل في الصباح عما صارت إليه أحداثها، ويظل أهل القرية
يتحاكون بأحداث تلك القصة الأثيرة، وبراعة الشيخ محمد عبد الهادي في حكيها
وغنائها. لم يكن يقطع سردَ القصّة التي يحكيها الشيخ محمد عبد الهادي
إلا ظهور الشيخ محمد المغازي بين المشاهدين، وكان الشيخ محمد المغازي -رحمه
الله- طويلا ذا وجه مستدير أبيض سمح طيب الملامح، وله إطلالة مهيبة...
يلمحه الشيخ محمد عبد الهادي فيفهم بإشارة منه ما يريده. عندئذ يقطع قصته
في أي موضع مباشرة، ويبدأ ينشد: (قلوبُ العَاشِقِينَ لَهَا عُيُونٌ ** تَرَى مَا لَا يَراهُ النَّاظِرُونَا)
فيدخل الشيخ محمد المغازي إلى وسط المشاهدين، ويوسع الجميع له حلقة فارغة،
ويبدأ حلقة ذكر على نغم الأنشودة بلحنها الآسر وصوت الشيخ محمد عبد الهادي
البديع الذي يجعل الأشجار والأحجار تتمايل طربًا. ينضم المريدون إلى الشيخ
المغازي في حلقة حوله، وتزداد وتيرة التمايل رويدًا رويدًا وينضم إلى
الحلقة العديد من المريدين. بينما يكمل الشيخ محمد عبد الهادي الأنشودة: قلوبُ العَاشِقِينَ لَهَا عُيُونٌ ** تَرَى مَا لَا يَراهُ النَّاظِرُونَا وَألْسِنَةٌ بِأسْرَارٍ تُنَاجِي ** تَغِيبُ عَنِ الكِرَامِ الكَاتِبِينَا وَأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بَغَيْرِ رَيِشٍ ** إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالَمِينَا وَتَرْتَعُ في رِيَاضِ القُدْسِ طَوْرًا ** وَتَشْرَبُ مِنْ بِحَارِ العَارِفِينَا عِبَادٌ أخْلَصُوا للهِ حَتَّى ** دَنَوْا مِنْهُ وَصَارُوا وَاصِلِينَا
وعند هذا البيت الأخير تكون الأرواح قد طارت بالأبدان إلى عنان السماء.
تستمر الحلقة إلى ربع ساعة تقريبا... حتى يقضي الشيخ محمد المغازي
والمريدون حوله وطرهم ويغادروا، فيعود الشيخ محمد عبد الهادي لاستكمال
القصة من حيث توقف. في آخر أيام المولد يركب الخليفة، وركوب الخليفة
إشارة إلى انتهاء مراسم المولد رسميا، حتى إن مثلا كان يتردد: (رَكَبَ
الخليفة وانفضَّ المولد) والخليفة هو أحد الأطفال من عائلة المغازي، يلبس
كيسًا من سَتَانٍ أخضر، لا تبين تفاصيل جسمه، ويركب على حصان، ويظل يدور
بجسمه وهو على صهوة الحصان، ويحيط به كبار المشايخ، وتتقدمه فرقة الدراويش
وهم يدقون الدفوف والطِّيرَان، ويشهد ذلك آلاف البشر في موكب ضخم يطوف
البلد بعد مغرب آخر يوم في المولد، وكنَّا نتساءل: كيف لهذا الطفل أن يظل
يدور بجسمه من على ظهر الحصان لساعات دون أن يدوخ ويقع من عليه، وكنا نعتبر
هذا من الكرامات..!! يحكِي أهل قريتي عن كرامات الشيخة سكينة المغازي
يرحمها الله، وكانت قد ماتت من قبل أن أولد أنا بأعوام، ولم يحظَ أحدٌ
بعدها بما حظيت به من تبجيل واعتزاز، حتى إن الأطفال كانوا يحلفون متوعدين
أنفسهم بها فيقولون مثلا: (إلاهي لو كنت بكدب الشيخة سكينة تحش ضهري وأنا
نايم) وكان أهل قريتي يحكون عن مشهد موتها أعاجيب؛ حيث جاب نعشها القرية
والقرى المجاورة، وكان خفيفًا على أيدي الرجال كأنه يطير، حتى إنه توجه بهم
إلى المقابر وأبَى أن يدخل المقام، بعد أن كانوا قد جهَّزُوا لدفنها في
المقام، وفي بداية المقابر نزل النعش من على أيدي الرجال فحفروا لها لحدًا
حيث نزل، ثم بنوا فوقه قبرا بارزا على الأرض كمقابر أهل قريتي، وفي الصباح
وجدوه منهدمًا، فأعادوا بناءه، فأصبحوا به منهدمًا، فعلموا أن الشيخة سكينة
لا تريد قبرًا بارزًا، وظلَّ إلى اليوم موضعُ دفنها مستويًا بالأرض دون
جميع مقابر القرية، يتميز بقطع حجارة صغيرة متناثرة فوقه فقط لا غير. يشار
إليها فيقال: هنا ترقد الشيخة سكينة. أما الشيخ المغازي الكبير الذي لم
يره أحد، فيقال إنه لم يكن مدفونًا في المقام، بل كان مدفونا في مقدمة
الزراعية بالقرب من القرية، في مكان لا توجد به مقابر ولا يعرفه أحد، فأتى
في المنام لأحد وجهاء القرية، وأخذه من يده ودلَّه على مكانه، ثم أخذه إلى
مكان المقام الحالي وخط له على الأرض بعصا أن انقلني هنا، وفي الصباح ذهب
الرجال إلى حيث أشير في المنام، وحفروا فوجدوا ثلاثة جسامين بحالتها من
مئات السنين لم يعاصرهم أحد من الأحياء آنذاك، فنقلوها إلى مكان المقام ثم
أقاموا المقام فوقها، ويقال سُمِّيَ المغازي لأنه كان يغزو في سبيل الله.
كنت في طفولتي شغوفا بالمولد، أترقب موعد إقامته، وعندما وصلت إلى الصف
الأول الثانوي، وصعدت منبر المسجد القبلي لأول مرة لأخطب الجمعة، انتقدت
فكرة إقامة الموالد من حيث إنها لا علاقة لها بالإسلام... [وهذه قصة من قصص الشيخ محمد عبد الهادي]