الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (22)

خزانة الأديب : الحلقة (22) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :


حتى مبروك لم يكن محتاجًا، بل لا أظنه كان فقيرًا... ومبروك هذا حالة نادرة، قد لا تتكَرَّر في القرى كثيرا، وربما كان الحالة الوحيدة في قريتنا على مَرِّ التاريخ.
أدركتُه في طفولتي وهو رجل كبير بين الخمسين والستين، وعلمتُ من أهل قريتي أنه وَفَدَ إلينا وهو طفل لا يعرف له بلدًا يعود إليها، ولا أهلا يمكن البحث عنهم، حتى لو كان يعرف فهو لم يكن يرغب في العودة إلى أهله، وفضَّل أن يعيش في دِسْيَا. وعاش حتى بلغ من السن ما بلغ.
كل ما كان يذكره مبروك أن أمَّه ماتت، فتزوَّج أبوه من امرأة قاسية، فضربته ضربًا مبرِّحًا لسببٍ تافه، وأخافته خوفًا شديدًا، جعله يخرج من البيت جاريًا حافيًا خائفًا بأسرع ما يستطيع، حتى وصل إلى طريق عمومي يمر على قريته ويربط بين مدينتين، كان الناس ينتظرون حافلة الحكومة ليركبوها -أتوبيس عام كان يُقَال له: الشِّرْكَة- فاندس بينهم مبروك، وسرعان ما أتت الحافلة فركبها معهم، ونزل في مدينة لا يعرفها ولا تعرفه، طفل صغير حافي القدمين وحيد ضعيف، يهرب من وحشة الشوارع إلى أُنْسِ الحافلات العامة، وينزل في آخر المحطات أينما كانت؛ فكل بلاد الله بالنسبة له سواء، إلا تلك البقعة التي تقبع فيها زوجة أبيه التي تنتظره بالعصا.
حملت الحافلات مبروكًا ارتجالًا إلى مدينة دسوق، وتزامن وصوله مع إقامة مولد الشيخ إبراهيم الدسوقي. وفي قريتنا -على صِغَرِها- مقام الشيخ المغازي، وكان المغازية من أهل قريتنا يواظبون على حضور الموالد الكبرى على مستوى الجمهورية، يتخذُون لهم مَقَرًّا بالقرب من المقام، يُطْعِمُون الطعام ويقيمون حلقات الذكر على طريقتهم، دخل مبروك مقر المغازية، وكأنه وصل إلى مبتغاه، بعد رحلة طالت شهورا في بلاد الله، لمسَ العطف والمحبة من المغازية ومريديهم من أهل قريتنا، فلم يتركهم، وعندما انفضَ المولد حملوه معهم إلى قريتنا.
كان مقام الشيخ المغازي في ذلك الزمان لا يخلو من المريدين والناذرين والممسوسين وطالبي العلاج من شتى البلدان، وكان من الطبيعي أن يظلَّ لديهم بعض الغرباء لأعوام طلبًا للشفاء متبركين بخدمة المقام، لم تخلُ قريتنا من خمسة غرباء أو ستة يعيشون في كنف المغازية لأعوام حتى إنهم يَعْرِفُون أهل القرية ويعرفهم أهل القرية جميعًا، لكنهم يظلون يحملون صفة الضيوف. كان أقدمهم شابٌّ يُقال له: (السَّيِّد لَهَالِيبُو)، ولا أنسى يوم سأله الشيخ فتح الله الرشيدي بائع البلح: (بتشتغل إيه؟) فقال السيد لهاليبو: (كاعد في دار المغازي). فقال الشيخ فتح الله: (قَدِّ الهِلْف وقَاعَدْ في دار المغازي تعمل إيه؟ يا أخي اشتغل شغلانة مفيدة..!!).
لكن مبروكًا لم يقعد في دار المغازي طويلا، وسرعان ما برحها إلى المسجد القبلي، ولم يكن في القرية سواه، لم يكن المسجد البحري قد تم بناؤه. نَذَرَ مبروك نفسه خادمًا وحارسًا ومسؤولا عن المسجد، حتى مرَّ بمراحل الشباب والكهولة، وقد ترك له الحاج (عثمان برغوث) حجرتين قريبتين من المسجد، أقام في واحدة وجعل الأخرى لخزينه، أمام الحجرتين طُرْقَة طويلة منتهية في جانب منها إلى المسجد، والجانب الآخر به باب يُفتح على الحارة القبلية.
ارتبط مبروك بالمسجد وارتبط المسجد به، حتى إننا ونحن أطفال كُنَّا نظنه صاحب المسجد، (يعني أي عيل يخش الجامع لازم يستأذن من عَمِّ مبروك الأوَّل) اكتسب مبروك قَدْرَهُ ومكانتَه في نفوس أهل القرية من مكانة المسجد ذاته، وليس للرجل مصدر سوى ذلك، فلا أهْلٌ ولا عزوة، ومَا بَالُكَ بِرَجُلٍ المسجِدُ أبوه، والقريَةُ كلُّها أمُّه، كيف ستكون مكانته بين الجميع..؟! كان مبروك هو الوحيد الذي يمكن أن ينفعل على أهل القرية جميعًا كبارًا وصغارًا، من أكبر ساداتها إلى أصغر أبنائها، ولا يمكن أن يبادله أحَدٌ انفعالًا بانفعالٍ وإنما بالاسترضاء والابتسام، كان هو الوحيد الذي يُعَدُّ الانْكِسَار أمَامَه رِفْعَةً وَنُبْلًا، وَرَفْعًا لِشَأْنِ المُنْكَسِر مَهْمَا كَانَ مَقَامُه.
لا أدري لماذا لم يتزوَّج مبروك، بل لا أدري هل كان يحمل بطاقة شخصية أم لا؟ وكان يذكر أن أصله من قرية تابعة لمحافظة المنوفية، ولكنه لا يعرف اسمهَا تحديدًا، وأظن أنه لم يكن يعرف اسمه كاملا على وجه اليقين، كما لا أدري هل لَفْظُ (مبروك) هو اسمه أم صفته؟
كان مبروك يميل إلى الاسمرار (في لون الرئيس السادات تمامًا)، ولم يكن طويلًا ولا قصيرًا، فقد تجاوَزَ القِصَر بقَلِيل، ولا يلبس إلَّا الثياب البيضاء، ويضع على رأسه شالًا أبيض، ويمشي مرفوع الرأس قليلًا، ولكن إذا تعمَّقْتَ في عينيهِ فربما لمحتَ انكسارًا وحُزْنًا دفينًا. وبيده سبحة طويلة عجيبة، لا يُسَبِّحُ عليها وإنما يتباهى بها، كان في مئذنتها ثقب كرأس الدبوس إذا نظرت فيه رأيت المسجد الحرام في حجمه الطبيعي على مرمى البصر. كم كان يروقني ذلك في طفولتي.
لم يمدّ مبروك يده لأحد، وكان شديد عِزَّةِ النَّفْس، بل إن أيادي أهل البلد جميعًا هي التي كانت تمتد إليه على استحياء، فقد كان اسمه هو الأوَّل إذا رتَّبْتَ مستحقي الصدقات غلالًا وأموالًا، وكان يتلقاها بكل أنَفَةٍ، تجد الرجل قد حمل إليه حقه من القمح مثلا، ومبروك جالس في حجرته، فلا يتحرك من مكانه، ويشير بيده إلى حامل الزكاة كأنه الآمر الناهي: (حطه في الأوضه اللي جنبي) لا أظُنُّه نطق يومًا كلمة شكر أو لهج بدعاء لأحد.
كانت من أسعد أوقاتي في طفولتي آخر شهر شعبان من كل عام، حينما أشارك عمِّ مبروك في صنع منارة وتعليقها على أعلى شجرة في المسجد، كان يأتي بإطار غربال فارغ، ونثبت فيه بضعة مصابيح كهربائية لنصنع دائرة من الضوء، ثم يصعد أحد الماهرين في تسلق الأشجار ويثبتها في أعلى مكان ممكن حيث لا تواريها أوراق ولا أغصان، وتكون واصلة بسلك طويل. كان مبروك يضيئها عند أذان المغرب في رمضان، ويفصلها عند الإمساك، فكان الناس ليس في قريتنا فقط وإنما في القرى المجاورة يستهدون بها، فيأكلون ويشربون ما دامت مضاءة. كان مبروك يهتم أيما اهتمام بإنجاز هذا العمل، وكأنَّ الصيام لن يتم إلا به، وعندما تُضَاء لأوَّل مرة في ليلة من ليالي شعبان كبثٍّ تجريبي يقفز مبروك من على الأرض مصفقًا بيديهِ معبرًا عن سعادته كأنه طفل صغير.
في موسم الحصاد تجتمع في حجرة خزين مبروك عدة أجولة من القمح أو الأرز، فيبيعها جميعًا، فلم تكن له حاجة بها، ولم يكن يأكل عند أحد مطلقًا، فكان من عادة الحي القبلي كل مساء أن يرسلوا له طبقًا مما يطبخون، وكان هذا مما أعانيه في طفولتي، إذ كانت ترسلني أمي –رحمها الله- بالطبق فأقف على الباب وأظل أنادي بصوتي الطفولي الضعيف: (يَا عَمِّ مبروك...) فيرد ولا يفتح، وقد أقف ربع ساعة أو أكثر، وليس في الحارة مكان للقعود، وأنا ممسك الطبق بكلتا يَدَيَّ كالذي يُنَفِذُّ عقابًا بالتذنيب، ومبروك لا يرحم، ولا يستجيب إلا بعد عذاب. كان هذا دَيْدَنُه معي ومع من يأتيه من أطفال الجيران، حتى صار الذهاب بالطعام إليه همًّا ثقيلا نتذمَّر منه، ولا نذهب إلا بعد إلحاح وترغيب في الثواب.
- والله يا أمَّه بيرد عليَّ ويوقفني بالسَّاعة ما بيفتحش الباب وبيبقى سامعني.
- معلش يا حبيبي طَوِّلْ بالَكْ عليه... يعني ينفع نتعشى من غير ما نبعت لعمك مبروك..؟!!
كان هذا عذابًا شبه يومي... وفي يوم كان مبروك عندنا في البراندة، فقال له أخي بديع معاتبا:
- يا مبروك أنت بتعذب العيال ليه..؟! يا أخي ابقى افتح الباب وما تعملش فيهم كده.
فردَّ ردًّا عجيبا (أيْ والله): (أنا قاصد أعمل كده، اللي بيجولي نوعين، ناس بيحبوني من قلبهم بجَد، ودُول بيستحملوا وثوابهم بيزيد، وناس جاية من غير نِفْس ما بيستحملوش وبيرجعوا بالأكل، وأنا مش عايز منهم حاجة).
تقريبا عام 1986 مرض مبروك مرضا شديدا، لم يعد يصلح أن يعيش منفردا، فاستضفناه في بيتنا، وخصصنا له المندرة، لنتابع علاجه، وظل حوالي ستة شهور مقيمًا عندنا وجميع الأسرة في خدمته، كان ينفعل فيها لأتفه الأسباب، بعدها تعافى قليلًا، ولعلَّهَا عافية الموت، فترك منزلنا، وبعدها بأسبوعين لَقِيَ ربَّه.
يرحمه الله... واللهِ وَحَشني.

------------
ولعل للحديث بقية...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products