
خزانة الأديب : الحلقة (19) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
كانت الأسِرَّة ذات القوائم النحاسية أو الحديدية هي المستخدمة في
القرى، لم تكن الأسِرَّة الخشبيَّة معترفًا بها مطلقًا، فالسرير عبارة عن
أربعة قوائم بارتفاع مترين ونصف، توضع المرتبة على ارتفاع متر وربع، وأما
المتر وربع الباقي فتُشَدُّ عليه ناموسية، ومن فوقها في أعلى السرير (دائر
السرير) وكانت النساء تفتخرن بهذا الداير كما كان يطلق عليه، وكان مطرَّزًا
ومزركشا وبه رسوم تزينه. كان السرير إذا أُسْدِلَتْ عليه الناموسية يبدو
كما لو كان حجرة داخل الحجرة ولا يفصله عن السقف سوى أقل من نصف متر.
كنتُ لا أزال في ضمير الغيب عندما بنى أبي لنا بيتا خارج الحارة، وانتقلت
الأسرة إليه في منتصف الستينيات، جعل أبي حجرة جدي إلى جوار حجرته، وتمَّ
فكُّ سرير جدي وتركيبه في حجرته الجديدة، أما حجرة أبي فكان لها شأن آخر،
طرح أبي سريره ذلك النحاسي ولم ينصبه في حجرته الجديدة، وبدأ يعمل عملا
غريبًا، وكان أبي مبدعا حقًّا...
- بتعمل إيه يا عبد السلام؟ سألت أمي.
- أبني سريرًا.
- بتبني سرير..؟! وسريرنا يا أخويا..؟!
- مش عايزينه.
- يعني حترمي سريرنا النحاس المحترم وتبني مصطبة ننام عليها..؟ أنا عايزة
أفرد الناموسية، وأعلق الداير على سرير له القيمة زي كل الستات.
- حتعملي كل حاجة واصبري عليَّ لو ما عجبكيش نهده ويا دار ما دخلك شر.
لم تكن أمي مقتنعة في البداية، ولكن ما كان لها غير أن تنتظر... بنى أبي
سريرًا بديعًا في ركن من الحجرة، وجعل له بابًا أنيقًا، وجعل له قوائم من
الخشب الزَّان، وثبَّت في أحد جوانبه حِلْيَاتٍ على شكل عرائس من الحديد.
وما إن اكتمل وتمت محارته ودهانه إلا وظهر في صورة رائعة، وما إن وُضِعَت
عليه مراتبه، وأُفْرِدَتْ ملايَتُه، وعلِّقَتْ ناموسيَّتُه، وشُدَّ دائِرُه
على القوائم الخشبية، إلا بدا في كامل زينته، فلا يمكن أن يتوقع من يراه
أنه بناء لا يمكن نقله، بل إنه من المستحيل أن يهتز.
في الليالي
الصيفية، ذات الناموس الشرس، لم يكن لأحد مهرب إلا داخل ناموسية سرير، فكان
أبي يضع الطبلية فوق ذلك السرير البديع، ومن فوقها اللمبة نمرة 10، ويقعد
يُقَفِّل حسابات الجمعية الزراعية، ويقعد أخوتي الصغار حوله يذاكرون، لم
يكن سرير يتحمل هذا سوى سرير أبي. أما النوم عليه، فكانت له سَكينة
واطمئنان خاص، إلا موضع شبر منه، ما أعجبه وما أغربه... أي والله.
مات
أبي في منتصف السبعينيات، وأصبح سريره هو سرير الأسرة كلها، فكم
تحلَّقْنَا فوقه حول الطبلية لنذاكر ثم ننام، متجنبين ذلك الشبر العجيب،
موضع محدد على بعد شبر من طرف السرير بجوار الشباك، وبمساحة 10 سنتيمتر، لو
وقعت رأس النائم فيها، ودخل في النوم، انتقل إلى عالم رهيب، قد يرى
أشباحًا تهدده بالقتل، يسمع صوتها ويرى خيالها، ويتحاور معها، وقد يشعر بمن
طبق على أنفاسه ليخنقه، ويصرخ النائم بأعلى صوته مستغيثًا بمن ينجده، وهو
يشعر بحركة مَنْ في البيت أو في الحجرة ذاتها، ويتعجب لماذا يسمعون صراخه
ولا ينقذونه من هؤلاء المجرمين، بينما هو نائم لا يشعر به أحد... لا
يُخْرِجُه من هذا الضيق إلا أن تتزحزح رأسه ولو سنتيمتر واحد من هذا الموضع
العجيب.
مع الوقت كُنَّا ألِفْنا أنا وأخوتي هؤلاء العفاريت، وجعلناهم
مثارًا للتفكُّه، وكلُ من تقع رأسه في ذلك الموضع يحكي ما كان من أمره
معهم. وأُقْسِمُ أنني كنت أتعمَّد أحيانًا وضع رأسي في ذلك الموضع وأنا
أقول: "تعالوا يا حبايبي... لما أشوف أخرتها معاكم".
وأنا في الصف
الخامس الابتدائي صعدت إلى سطح منزلنا، وربطت قالب طوب في حبل، وأدليته من
فوق السطح حتى صار محاذيًا لذلك الموضع أمام الشباك، فحددت مكانه على السطح
بدقة، ثم فرشت ونمت واضعًا رأسي فيه تماما، وكان ما توقعته، دخلت في ذلك
العالم العفاريتي وتمَلَّكَ مني الكابوس، وأفلت منه بجهد النفس.
كنا
نفسر هذا الأمر بأن ذلك الشبر مسكون... ولكنني أعتقد أن للكون من حولنا
أسرارًا لم يبح بها بعد، ولحركة الأجرام السماوية والجاذبيات إحداثيات قد
تُحْدِثُ أعاجيب، ربما فك العلم أسرارها، وربما قامت الساعة ولم يسبر
الإنسان أغوارها، وأظن أن مدارًا مَا مرتبطًا بهذا الموضع يؤثر على المخ
البشري حال النوم...
وفي ليلة ليلاء من ليالي الشتاء، كان أخي أنيس قد
استأثر بالسرير هو وزميل له ضعيف القلب شديد الخوف، يذاكران على الطبلية
داخل الناموسية وقد قرب الامتحان (قال يعني أنيس بيذاكر...)، وقد تركنا
لهما الحجرة بسريرها وحالها... وفي الساعة الثانية قبل الفجر، فتح أنيس باب
الناموسية وهَمَّ بالنزول من على السرير...
- رايح فين وسايبني لوحدي يا أنيس؟
- دقيقة واحدة يا محمد رايح الحمام.
- استنى أنا جي معاك أنا بخاف أقعد لوحدي.
- يا عم عيب كده بلاش خيابة يعني حا يحصل إيه.. حيطلع لك ميت من الطربة ويجيلك...؟!
انتظر محمد متوجِّسًا وأمره لله، وبالفعل ذهب أنيس إلى الحمام، وهو عائد
تسلل إلى حجرة جدي، وأخذ الكيسة إياها من دولاب جدي (بتاعة البراغيث)
ولبسها فبدا كما لو كان ميتا مكفنا منتصبا على قدميه، ودخل الحجرة
بهدووووووء ووقف أمام الناموسية صامتًا، ثم بدأ يزوم أممممممممم (طبعا
المتوقع أن الميت لو قام من الطربة فسوف يزوم).
سمع محمد الصوت الغريب،
وبدا له شبحٌ من وراء الناموسية، فصار كالفأر الذي أحاط به عشرون قطًّا،
فتح طرف الناموسية ونظر بعين واحدة مرتجفًا، ولسوء حَظِّه أنه لم يُغْمَ
عليه، فأخذ يصرخ ويستغيث بطوب الأرض... وبالفعل لم تبق طوبة في البيت ولا
حوله إلا استيقظت وهُرِعَتْ لنجدته.
إن ما فعله أنيس في تلك الليلة،
وما فعله مع أبيه عندما نام له في النعش قبل بضع سنوات، يُعَدَّان هذارًا
خفيفًا ولعبَ عيال إذا قِيسَا بما فعله مع زميله (عثمان) فيما بعد...
------------