الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (18)

خزانة الأديب : الحلقة (18) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :


عَرَفَتْ قريتُنا وكالاتِ الأنباء قبل العديد من الوكالات المحلية وكذلك العالمية... فكان بها وكالتان لأنباء القرية، وكالة قبلية وأخرى بحرية، كل واحدة تختص بما يليها من منازل القرية وأهلها؛ وسأقصر حديثي عن الوكالة القبلية، وما كان أروعها وأمتعها من وكالة، فإذا كان قصارى ما تصل إليه الوكالات العالمية من دقة في الأداء هو الحصول على الخبر من مصادره، فإن تلك الوكالة تجاوزت ذلك بكثير، إن المصادر كانت تأتي إليها وتذيع أخبارها بنفسها، ولم تقتصر تلك الوكالة على إذاعة أخبار غاية في السرية، بل أحيانا كان يتم بها صناعة الحدث ذاته، فترى وتسمع وتعيش الأحداث وقت حدوثها، ولم يكن لها أسوار أو حوائط تحجب من بها، فهي رائدة لفكرة المسرح المفتوح...
تأخَّر دخول الماء إلى بيوت قريتنا حتى أوائل التسعينيات، وكان أهل القرية كأغلب قرى مصر في ذلك الحين يجلبون الماء إلى بيوتهم في الأوعية من (الحنفية) والحنفية هي كتلة خرسانية بارزة على وجه الأرض بارتفاع متر ونصف، وطول متر ونصف، وعرض 30 سم، ومركب بها أربعة صنابير، اثنان من كل جهة، وتكون بجوار مصرف، لصرف المياه الزائدة.
لم يكن أهل بيت يستغنون عن التردد إلى تلك الحنفية أكثر من مرة يوميا؛ لجلب المياه إلى بيوتهم، أو لغسيل المواعين، فكانت الغالبية اختصارا للوقت تحمل أوعيتها كلها فتضعها فوق الكتلة الخرسانية، وتقوم بمهمتها وتعود بها إلى منزلها مغسولة، وبعضهم يفعل ذلك في الملابس، والجميع يفعل ذلك في غسيل الغلة (القمح قبل الطحين).
تخيَّل مكانا مستهدفا لكل هذه المهام من خمسين أسرة على الأقل، هم سكان الجهة القبلية، وجميع مرتاديه سيدات لا يعرفن الصمت، وأمتع ما يستمتعن به في حياتهن الحكي والفضفضة التي لا تكاد تتوقف أو تنتهي...
كانت براندة منزلنا مرتفعة عن الأرض بحوالي متر ونصف، وهي مُشْرِفَة على الحنفية تماما، بينهما حوالي ثلاثة أمتار؛ فيكفيك أن تجلس نصف ساعة في البراندة صباحا ريثما تشرب الشاي، وسوف تسمع جميع أخبار البلد من حوار السيدات المنتظرات أدوارهن على الحنفية، ولو أنك صبرت قليلا لعرفت ماذا ستطبخ كل واحدة منهن في هذا اليوم (والكلام بيجيب كلام...).
إذا كنت تريد معرفة أخبار بلدنا في ذلك الحين فما عليك إلا أن تتفضل بتشريفنا، وشرب كوب شاي في براندتنا صباحا، وإذا صبرت لساعة، فسوف نقدم لك مشروبًا آخر وقد يحالفك الحظ وتشهد مشاهدة حية أحلى خناقة بالحلل بين صبيتين تنازعتا على دورهما في التمكن من الحنفية، أو اعتراضا على استغلال إحداهن... فأطالت غسل أوعيتها أو دعك قدميها... وغالبا تكون بين المتشاجرات أشياء كامنة في النفوس لأسباب شتى، ويكون موضوع الحنفية سببا ومسرحا لفَشِّ الغلّ... وبالطبع السلاح الجاهز في تلك الخناقات هو أن تغرق كل منهما الأخرى بالماء... لك أن تستمتع بمشاهدة الخناقة لكن حذارِ أن تسوِّل لك نفسك التدخل أو فض اشتباكهما.. ولا تزد إذا كانت سنك تسمح عن أن تشخط وأنت في مكانك: (بس يا بت.. أنت يا بت.. يا أم فلان سلِّكيهم...)... فكانت الحنفية القبلية وكالة أنباء ومسرحًا مفتوحًا باستمرار.
ولا أنسى ذلك اليوم الذي تم فيه تضليل هذه الوكالة بكل مصادرها ومرتاديها... كان في الجهة المقابلة للوكالة -أقصد الحنفية- جار وصديق قريب جدا لي ولأخوتي، ولم يكن في القرية تليفزيونات، ولكن المذياع كان قد انتشر، ويقال له (الراديو) وكان صديقنا هذا يجيد إصلاح الراديو إذا سكت ولم يصدر صوتا كذا بالخبرة دون تخصص... فاجتمع لديه عدة أجهزة قديمة، وجرب أن يصل سماعة بدائرة استقبال الصوت، فتحوَّلت مصادفة معه إلى (مايك) فإذا تكلم فيه صدر الصوت من المذياع مختلطا بما يذاع.
ما إن رأى نتيجة ما صنع إلا طرأت في رأسه فكرة؛ كان شباك حجرته مطلا على الحنفية، لا يفصله عنها سوى شارع عرضه ثلاثة أمتار، فاختار أكبر راديو عنده ووضعه في الشباك، ووجهه إلى الحنفية، وكان قد وصل به سماعة بسلك طويل، وانتظر وصلة موسيقية، وبعدها مباشرة فصل إرسال الراديو وأطل هو بصوته قبل المذيع وظل يردد:
إلى أهالي دسيا سيتم قطع المياه لمدة شهر من بكرة... وعلى الأهالي تدبير احتياجهم من الماء... إلى أهالي دسيا سيتم قطع المياه لمدة شهر من بكرة... وعلى الأهالي تدبير احتياجهم من الماء...........

 ------------
ولعل للحديث بقية...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products