خزانة الأديب : الحلقة (17) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :

لا أزال أحفظ تلك الشكوى بالحرف الواحد، منذ أن استمعت إليها من أحد
ضيوف جيران لنا، وأنا في الصف الخامس الابتدائي، وكان الضيوف الذين يأتون
لإحدى الأسر هم ضيوف الجيران جميعًا، فكان الجيران يبادرون إلى استضافتهم
في بيوتهم إكراما لجارهم، فكان الضيف في قريتنا هو ضيف للشارع كله، وليس
لأقاربه الذين حل عليهم ضيفا فقط، فتجد الجيران وجيران الجيران يحرصون على
أن يعزموه عندهم، على العشاء أو على الأقل شرب الشاي.
كان الجيران
يبرون جيرانهم في ضيوفهم، فقد عرفت قريتنا إكرام ضيوف الجيران إلى جانب حق
الجار نفسه. فتجد الناس يعرفون أقارب جيرانهم كأقاربهم تمامًا...
لا
أزال أحفظ تلك الشكوى، التي استمعت إليها من أحد ضيوف جيران لنا، بينما هو
يشرب الشاي في البراندة عندنا، سأله أخي هل تحفظ شيئا من شكوى أبيك الشيخ
جمعة؟
فقال: نعم أحفظها كلها.
ما هذا السؤال الغريب؟
وما تلك الإجابة الأغرب؟
كان الشيخ جمعة هارون التمام قد عاد من حقل له بعد العصر، فوجد زوجته
السيدة زمزم حزينة منزوية تبكي في ركن من أركان المنزل، وكان الشيخ جمعة
وزوجته من الأنقياء الطيبين، وقد ربيا أبناءهما على مكارم الأخلاق، فلا
يصدر من منهم إلا الكلام الطيب. وكانت لهم جارة سيئة الخلق، يبدو أنها أخذت
بنصيب وافر من اسم قريتهم، فقد كانوا يعيشون في قرية اسمها (سحالي) فكأنها
سحلية من سحالي قرية سحالي، وما أدراك ما لسان السحلية؟
تشاجرت تلك
السيدة مع الطيبة زوجة الطيب لسبب تافه، فشتمتها بألفاظ ليست من قاموس ذلك
البيت، ثم شفعت شتيمتها بإشارة مستقبحة من الأصبع الوسطى ليدها اليمنى...
لم تستطع زوجة الشيخ جمعة تحمل وقع الإشارة بعد تحمل سيل الشتائم صابرة محتسبة، فقالت لجارتها:
- اعكسي إيدك... ضَيَّريها نحيتك دا يليق بيكي أنت.
فاستشاطت السحلية غضبًا وتحولت إلى ذئبة شرسة.
- يا نهار أبوكي ضلمة.. أنت بتقولي إيه.. طيب والله لعرفك.
نادت على بنت لها اسمها خَيْرَة فجرجرتا السيدة زمزم من على باب بيتها إلى
عرض الشارع، فخنقتها إحداهما بيديها وأوسعتها الأخرى ضربًا، رأت ذلك زوجة
أحد الجيران واسمه عبد العزيز فرج، (فَرَقَعَتْ بالصوت):
- يا لهوي الولية حتموت في إيديهم... إلحق يا علي مرات أخوك حتفطس في إيديهم يا لهويييييي...
وظلت تصرخ حتى حضر علي مسرعا وخلصها من يدي الذئبتين.
دخلت زمزم بيتها منكسرة، وحضر الشيخ جمعة من حقله، وعرف ما حدث لزوجته...
- لا تحزني يا زمزم فلن أترك لك حقك.
- حتعمل إيه يا أخويا دا عالم سوء حسبنا الله ونعم الوكيل.
- قومي بس هاتي عَريضَة والقلم الكوبيا وما لكيش دعوة.
كانت هذه الحادثة في أوائل ستينيات القرن الماضي، كتب الشيخ شكواه، وضمنها
ما حدث بالتمام وكذلك أسماء الشهود، وأرسلها إلى عمدة القرية.
تقول
الرواية: إن العمدة قرأها فأشَّر عليها وأرسلها إلى قسم شرطة أبو حمص،
قرأها الضابط، فدخل بها إلى المأمور، وما إن قرأها المأمور، دمعت عيناه،
ووضعها على رأسه، وأشار فورا بإحضار الجميع ومعهم الشاكي مُكَرَّمًا.
وأُحضروا جميعًا... وتحققت العدالة.. ولم يخرج الشيخ جمعة وزوجته إلا راضين
مجبوري الخاطر، حتى إن المأمور بنفسه قبَّل رأس الشيخ جمعة...
كنت
أستمع وأنا ابن أحد عشر عاما إلى الشكوى بكل ملكاتي، وطلب أخي من ابن
الشيخ إعادتها، فسمعتها مرة أخرى فحفظتها (حَ رْ فِ يًّ ا) ولا أزال إلى
اليوم، لم أكتبها في ورقة مطلقا، ولعلها هذه هي المرة الأولى التي أكتبها
فيها، لم أغيِّر فيها شيئا إلا اسم المشكو في حقها، فربما كان لها حَفَدَة
يتابعون، وما دمت أستحضر رحاب طفولتي في قريتي، فأنا أحاول أن أتخلق
بأخلاقها العظيمة...
لقد كتب الشيخ جمعة:
يَا خَيْرَ عُمْدَةٍ اسْتَمِعْ لِكَلَامِي ** بَعْدَ التَّحِيَّةِ بَادِئًا بِسَلَامِي
أشْكُو إلَيْكَ (سُعَادَ بِنْتَ محمدٍ ** وَهْدَانَ) مَا فَعَلَتْ مِنَ الإجْرَامِ
قَدْ صَوَّبَتْ مِنْ خَلْفِ زَمْزَمَ إصْبَعًا ** تبغي بذلك أن تحطَّ مقَامي
قالت لهَا هَذَا يليقُ بكِ اعْكِسِي ** قَالَتْ نَهَارُكِ أسْوَدٌ بِظَلَامِ
نَادَتْ عَلَى بِنْتٍ لَهَا هيَّا اضْرِبِي ** بِنْتَ الكِلَابِ وَزَوْجَةَ الخَدَّامِ
قبَضَتْ عَلَى الحُلْقُومِ خَيْرَةُ بِنْتُهَا ** وَسُعَادُ تَضْرِبُهَا بِعَزْمٍ سَامِي
فَرَأتْ صَنِيعَهُمَا حَلِيلَةُ جَارِنَا ** (عَبْدِ العَزِيز فَرَجْ) بِلا إيهَامِ
نَادَتْ أخِي قاَلَتْ لَهُ (الحِقْ يَا عَلِي) ** فَأتَى وَأنْقَذَهَا مِنَ الآلامِ
وَلِذَا أتَيْتُ إلَى جَنَابِكَ رَاجِيًا ** تَحْوِيلَهَا لأكَابِرِ الحُكَّامِ
في المَرْكَزِ المَعْمُورِ فَهْوَ يُذيقُهَا ** سُوءَ الَّذِي فَعَلَتْ مِنَ الإجْرَامِ إمضاء
جمعة هارون التمام
------------
ولعل للحديث بقية...