خزانة الأديب : الحلقة (16) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
خص الله قريتنا بأمر ما سمعت عن قرية حازت مثله في العالمين، كم كان له من الفائدة، بل كان مصدر بهجة وفرحة لجميع أبنائها، مهرجان يُقام كل عام، يجتمع فيه كل أهل القرية على هدف واحد يستمر من بزوغ الشمس إلى قرب المغرب، عيد سنوي لدسيا فقط لا غير.
كان في الجهة البحرية من البلد مساحة تقريبا أربعة أفدنة، يُقال إنها كانت تلاًّ من الردم والقمامة، يُقال لها: (كوم العِمَرِي)، ويعتقد الناس أنَّ شيخًا مدفونا تحت هذا التل اسمه العِمَرِي، وفي زمن لم يشهده أحد من رفاق جيلي قام الناس بتجريف هذا التل فأقاموا بترابه بعض الطرق، وظلوا يجرفون حتى عثروا على رفات ذلك الشيخ المبارك، ونقلوه إلى حيث يعلم الله، وتحوَّل التل إلى بركة كبيرة، بمساحة الأفدنة الأربعة، وبعمق حوالي ثلاثة أمتار، فأوصلوها من الشمال بقناة زراعية، ومن الجنوب بمصرف، فامتلأت بالمياه عن آخرها، ورغم أنها بدت كبحيرة رائعة، ظلت محتفظة باسمها القديم (كوم العمري)، لم يعاصر أحد من أهل القرية جميعًا في ذلك الوقت الكوم الترابي، فقد ورثناها عن أجدادنا بحيرة، ويبدو أن الشيخ العمري كان مباركًا أيما بركة، فحلت بركته على تلك البحيرة فامتلأت بالأسماك. لم تكن هذه البحيرة مملوكة لأحد من القرية، وربما كانت تابعة للإصلاح الزراعي، ولم يكن لأحد عليها سلطان سوي أهل قرية دسيا.
كان عُرْفُ أهل القرية يقتضي ألَّا يصطاد منها أحد شيئا طول العام، إلا الأطفال الصغار الذين يجلسون بالصنارات على شاطئها الشرقي، وكم كان يسعدني ذلك... أما الصيد بالشباك فممنوع إلا في ذلك اليوم المعلوم من كل عام، يجتمع كبار أهل القرية لتقرير صيد البركة، فكان يتم الآتي:
تُحْسبُ تكلفة نزح الماء والصيد، فإذا كان المبلغ خمسين جنيها مثلا، يُقسَّمُ إلى نِسَبٍ، كانت تُسَمَّى (أكوامًا)، فهذا المبلغ عبارة عن مئتي كوم، فتكون قيمة الكوم ربع جنيه، كأنها أسهم، ويتم عرضها على من يشاء من أهل القرية، من يشتري كوما أو كومين أو أكثر كل أسرة حسب عدد أفرادها واحتياجها... يتفق الرجال على عدد الأكوام وقيمة الكوم ويتم التوزيع ودفع المبالغ وتحديد يوم الصيد المشهود؛ كل هذا في اجتماع عظيم قد يكون في دوار العمدة أو في الجرن البحري.
يا لها من فرحة... ومشهد عظيم في ذلك اليوم.. تخرج القرية عن بَكْرة أبيها كبارًا وصغارًا مع بزوغ الشمس، يحملون الطشوت (جمع طشت) والأواني الكبيرة جدًّا، ويرصونها على الجانب الغربي من البركة، حيث الطريق الواسع، أما الجانب الشرقي فلم يكن سوى طريق عرضه نصف متر يفصل البركة عن الأرض الزراعية.
يبدأ اليوم بغلق منفذ القناة المؤدي إلى البركة، وكذلك منفذ المصرف، ثم يبدأ نزح الماء، وكان يتم يدويًّا، ثم أدركته ماكينات الريِّ، حتى إذا لم يبق سوى نصف متر من المياه المنحسرة في مساحة ضئيلة في منتصف البركة، تنزل فرق الصيد بالشباك، بينما يتوزع الغَفَر ببنادقهم حول البركة لمنع أي إنسان تُسوِّل له نفسه النزول إلى البركة لالتقاط سمكة قبل إعلان انتهاء الصيد الرسمي.
أطنان من سمك البلطي والقراميط، يتم وزنها أوَّلًا بأول، حتى إذا ما انتهى الصيد، وأشار العمدة إلى الصيادين بعدم النزول، انطلق الصغار إلى عمق البركة فيمسكون الأسماك التي تفلتت من الشباك فتكون خالصة لهم حلَالًا بلُالًا.
يُقْسَم الوزن الإجمالي على عدد الأكوام، وحسب الرزق، ربما كان الكوم الواحد 10 كيلو أو أقل أو أكثر، حتى إن بعض الأسر الصغيرة كان يكفيها نصف كوم... ويتم توزيع الأكوام فتعود الطشوت إلى المنازل مليئة بالأسماك.
لم تكن في المنازل ثلاجات، بل لم تكن كهرباء أصلا... تبدأ الأسرة بأكل البلطي أما القراميط فتظل في الطشوت بها المياه فتعيش لأيام بل لأسابيع...
نموذج للوحدة والاشتراكية خص الله به قريتنا، وأي وحدة تلك أشد في دلالتها من أن يبيت أهل القرية وقد أكلوا جميعًا من طعام واحد لأيام متتالية..؟! ألا يكونون بذلك أسرة واحدة في بيوت متعددة..؟!
فرحة سنوية، لم يتعكر صفوها إلا في ذلك العام 1970 الذي عمَّ الحزن فيه قريتنا، وكأنه مات من كل أسرة أعز رجالها، ليس في قريتنا فقط، وإنما في كل القرى المجاورة، لم تشهد منطقتنا بقراها ونجوعها يومًا حزينا مثله... خرجت النعوش من القرى إلى الطريق الزراعي، تسير إلى لا شيء... يتناوب حملها الرجال والشباب، والكل يبكي لا أحد يمنع أحدًا من البكاء...
لم تكن تلك النعوش ذاهبة إلى مقابر، وإنما ليبكي الجميع خلفها، فالميت الذي لم يكن فيها، لم يكن يستوعبه نعش ولا قبر، إنه جمال عبد الناصر... مات عبد الناصر.
------------
ولعل للحديث بقية...
