خزانة الأديب : الحلقة (14) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
ما تذكرت جدي (عبد البر عبد السلام – رحمه الله) إلا غرقت في خجلي؛ لم تكن السيارات متاحة، ولم تُتَحْ له المواصلات ولا وسائل الاتصالات، ورغم ذلك لم يكن يمر عام أو عامان على أكثر تقدير إلا زار أقاربه جميعًا، يودعنا في رحلة قد تطول لشهرين متتاليين، يصل فيها أرحامه، وكان أقارب جدي على بعد 40 كيلومتر جنوب قريتنا وقرابة 30 كيلو شمالها، ولقد عاصرت جدي ولم يبقَ من أقاربه إلا من الدرجة الثالثة، أبناء خالات وعمات وأبناء أخوال وأعمام، وقد لا يكونون مباشرين، ومع ذلك كان حريصًا على زيارتهم بصورة منتظمة مهما كانت الظروف، فيقيم عند كل منهم ثلاثة أيام، ويودعه ليزور غيره.
يستعدُّ جدي للسفر لمسافات طويلة، يرْكَبُ أقلَّهَا ويمشي على قدميه جُلَّهَا، وقد يبيت في الطريق، ثم يصبح يواصل المسير، رحلة طويلة شاقَّة من أجل صلةِ الأرحام؛ وكأنَّ جدِّي كان يعتقد أنه لو بُنِيَ الإسلام على ستة أركان وليس خمسة لكان الركن السادس صلة الرحم.
أغرق في خجلي عندما أتذكر ذلك، وأقارن بين ما أتيح لي وما أتيح له، وحالي مع أقاربي وحاله مع أقاربه، يا لهول المفارقة...!!!
في ذلك الوقت –سبعينيات القرن الماضي- كان لأهل القرى عدوَّان لدودان، يُنَغِصَّان عليهم حياتهم، ويقضُّون مضاجعهم؛ هما الناموس والبراغيث.
أما الناموس فإنه من الكثرة والغلبة ما يجعل كل محاولات التصدي له فاشلة لا محالة، فما بالك ببلاد محاطة بالترع والمصارف والقنوات ومزارع الأرز دائمة الماء من كل الجهات؟! من الطبيعي أن تكون مزرعة للناموس من جميع الأحجام والأشكال والألوان، فمنه ما هو صغير للغاية كنا نسميه (هاموش) وهو يملأ الغيطان، وما أعجب ذلك المنظر عندما ترى أحدهم عائدًا من حقله قبل المغرب، يمشي على الزراعية، أو اللَّحف الصغير بين المزارع، وفوق رأسه بمقدار شبر سحابة من مليار هاموشة كأنها تظله وتتبعه إلى القرية، لا أدري لماذا..؟! ومن الناموس ما هو كبير مصاص دماء يهاجم المنازل بشراسة.
أما البراغيث فكانت تُعَدُّ مشكلة قومية، لدرجة أن أجهزة الدولة كانت تتصدى لها، فترسل الحملات إلى القرى والنجوع، تحمل أكياس بودرة مقاومة البراغيث..!!
كانت هذه هي المعضلة التي تواجه جدي في رحلاته المضنية ليصل أرحامه، فقد يبيت في الطريق، أو في بيوت لا يعرف ظروفها، وفي فراش غير فراشه، إن عشرين ناموسة وعشرين برغوثًا فقط ستكون قادرة على حرمانه من النوم، فما بالك بجيوش منها، وهذا طبعا متوقع وغير مستبعد مطلقا بل هو غالبا مؤكد.
لجأ جدي إلى حيلة عجيبة، لا أظن إنسانا سبقه إليها، لقد فصَّل (كِيسَة) على مقاسه من البفتة البيضاء، وهو قماش خفيف واسع المسام لا يكتم الأنفاس، كانت تلك الكيسة -كما كنا نطلق عليها- تستوعب جدي كاملا، وكان جدي قصيرًا نحيف البنية، وجعل في فوهتها خَيْطًا مدكَّكًا من القماش، فإذا دخل جدي فيها بقدميه بحيث كانت فوهتها عند رأسه، ثم شد الخيط من الداخل أُغْلِقَت عليه بإحكام.
كانت هذه الكِيسَة سلاح جدي الذي لا يفارقه في سفر أبدًا، يطويها بعناية فتكون في حجم المحفظة الكبيرة ويضعها في جيب الصيديري، فإذا بات خارج منزلنا وشعر بأي غدر من ناموس أو براغيث، تجرَّدَ من ملابسه قبل أن يخلد إلى النوم، ودخل داخل كسيته، وأحكم غلقها من الداخل، فصار معزولا تماما عما يحيط به، فإذا بالناموس والبراغيث من حوله تضرب أخماسًا في أسداس، وعلى المتضرر منها اللجوء إلى القضاء.
بعدما مات جدي بسنوات، زارنا أحد أقاربه من بلد قَصِيّ، وكان مما حكاه لنا:
زارنا جدي عبد البر في طفولتي، وكم كنا نفرح بمقدمه إلينا، وتبكي أسرتنا كلها عند وداعه عندما يقرر الرحيل بعد ثلاثة أيام، ولم أكن أعرف شيئًا عن حكاية الكِيسَة، وفي صباح أحد الأيام دخلت لأوقظه، ففوجئت به ميِّتًا ومُكَفَّنًا، فانهرت وصرخت باكيا من هول الصدمة: (آه يا جدي يا حبيبي أنت مت واتكفنت وأنا معرفش..؟!!) فإذا بالكفن يُفتح من أعلى ويطل جدي عبد البر برأسه: إيه يا فرج ما لك بتعيط ليه..؟! فكدت يُغْمَى عَلَيَّ...
-----------------
ولعل للحديث بقية...
