خزانة الأديب : الحلقة (13) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :
عَرَفَتْ قريتنا توصيل السلع للبيوت (دِلِيفَرِي) قبل المدينة بعقود؛ بل كانت أغلب مشتريات بيوتها بهذه الطريقة، وذلك في صورة البائعين الجائلين، وكانوا على أقسام مختلفة:
فقسم منهم يمر مرة في الأسبوع، يركب كل منهم حمارًا، وقد علَّق في جانبيه قفصين كبيرين مملوئين بشتى السلع؛ أحذية بلاستيك لجميع الأجناس والأعمار، وغير ذلك من أطباق وملاعق ونحوه... كان هؤلاء يبيعون تلك السلع مقابل البيض فقط لا غير، ويأخذون المقابل بالتقسيط، ولم يكن الرجال يتعاملون معهم، وإنما تتعامل معهم سيدات البيوت، تخرج سيدة المنزل وتأخذ ما تشاء، وكل أسبوع تعطيه مما ينتجه البيت من بيض الدجاج، وأحيانًا تطلب شيئا معينا فيأتي به البائع في الأسبوع التالي؛ فإذا طلب ابنها أو بنتها حذاءً أو إيشاربا مثلا، قالت لهم: "أنا موصية بُحبِيحَة حيجيبه الأسبوع الجاي".
لا أنسى من هؤلاء البائعين رجلا ضعيف البنية نحيفًا، أبيض البشرة، مبتسمًا دائمًا، يُقال له: (عمّ بُحْبِيحَة) لا أعرف له اسمًا غيره، ويبدو أنها صفةٌ أُطلِقَتْ عليه من قبل أن أُولَد فحَجبت اسمه تمامًا، والغريب أن عم بُحْبِيحَة كان يُسمِّي كل النساء اللائي يتعامل معهن (بُحْبِيحَة) فيقف بحماره أمام المنزل ويقول لمن يراه من الأطفال: "قل للبُحْبِيحَة اللي جِوَّة عمّ بُحْبِيحَة برَّة". ولم يكن يلحُّ في طلب أقساطه، فيأخذ ما يجده ولو بيضة واحدة، أو يمضي دون شيء.
أما العجيب في أمر عم بُحْبِيحَة أنه كان يتعامل مع مئات السيدات من قريتنا والقرى المجاورة، ولم يكن يكتب شيئًا، ومع ذلك يحفظ حساب كل واحدة بالمليم ماذا أخذت، وماذا دفعت من بيض يساوي كذا وكذا...
أما عمّ (ثُعْبَان) فكان محلَّ عطارة متنقلا، ولَكَمْ كنت معجبًا بنداءاته وقد قسَّم بضاعته إلى ثلاثيات متجانسة، فينادي:
- معانا الشطة، والكزبرة، والكمون.قِسْمٌ آخر من البائعين كان يمرُّ مرتين في العام، وهؤلاء هم بائعو العسل، يمرُّون مرة ببلاليص العسل، متراصة على عربة كارو يجرها بغل أو حمار، ومعهم جردل بويا وفرشاة، فيمرون على البيوت بيتًا بيتًا، والبيت الذي يأخذ بلَّاصًا، ينقشون على حائطه علامة بالفرشاة في موضع معلوم عن يمين باب المنزل، وإذا أخذ البيت بلاصين وضع البائع علامتين، وبعد بضعة أشهر في موسم الحصاد، يمر بعربته فارغة فيُحَمِّلها بالحبوب مقابل العسل، لا شيكات، ولا توقيعات، ولا أيّ مستند سوى تلك العلامة على الحائط. ولم يكن يَرِد على بال أهل بيت مطلقًا محوُها أو العبثُ بها، رغم أن العسل قد يكون، وغالبًا ما يكون قد نفد منذ فترة، وصار ثمنه عبئًا ثقيلًا... حتى إن مثلًا قد استُوحي من ذلك، كان لا يزال يتردد في قريتنا؛ فإذا أطال أحدهم الوقوف أمام إنسان لأي أمر قال له: "ما لك يا عم واقف لنا كده وكأنَّ علينا تمن العسل..؟!!".
- معانا الكحل، والنشوق، واللبان.
- معانا إبر البوابير، وإبر الخياطة، والمسلات.
------------
ولعل للحديث بقية...
