الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا (12)

خزانة الأديب : الحلقة (12) من حكايات الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام (من قلب دسيا) :

ارتبطت قريتنا ببعض الوافدين موسميًّا عليها، فصاروا من أهلها وإن لم يكونوا من أبنائها، فكانوا يقيمون بها شهرًا معلومًا كل عام، ثم يرحلون إلى بلادهم... كانوا مرتبطين بموسم الأرز، يأتون من رشيد من مسافة 40 كيلومتر من قريتنا، يحملون ما ينتجه النخل من البلح، وما يصنعونه من سعفه كالقفف والغلقان، ويستبدلون بذلك الأرز.
ولأهل رشيد سَمْتٌ خاص، وكانت لهؤلاء الوافدين لَكْنَةٌ مختلفة عن لكنة أهل قريتنا، فهم يقلقلون القاف، ويمطون بعض الحروف كالجيم، ثم إنهم متدينون طيبون ودعاء مسالمون.
لَكَمْ اشتقتُ لإطلالة ذلك الرجل المبارك منهم، فصورته محفورة في قلبي، إنه الشيخ فتح الله، ذلك الشيخ السبعيني، كنت أعجب منه أيما عجب!! وهو يحمل على ظهره في تلك السن قفصًا ضخمًا مليئًا بالبلح قد يقترب وزنه من 100 كيلو، وقد علَّقَه بحبلين على كتفيه، ويدور به على أجران الأرز طول النهار، ولا يقل الوزن أبدًا بل يزداد، فمن أخذ كيلا من البلح أعطاه مكانه كيلين من الأرز...
كان الشيخ فتح الله رِبْعةً منحنيًا انحناءة بسيطة لعلها من حمله القفص الدائم، فإذا وضَعَهُ ظلَّ جسمه بتلك الهيئة، وكأنَّ جسمه تَقَوْلَبَ بما يتناسب مع أكل (عِيشِه).
كان الشيخ فتح الله لا ينقطع أثناء البيع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيذكر حديثًا، أو يشرح آيةً، أو قصَّة من تراث الصالحين أثناء البيع... لا يمنعه عمله المرهق من أن يمارس الوعظ حسبة لله تعالى؛ فإذا حلَّ وقت الصلاة وضع حمله عن ظهره وتوجَّه إلى المسجد فأذَّن إن لم يكن به مؤذن وصلَّى.
وفي يومٍ وجبت صلاة الظهر، فوضع البلح أمام المسجد، ودخل فتوضَّأ وأذَّنَ على باب الميضأة، وما إن دخل المصلى ونظر تجاه المنبر والقبلة رأى ما لم يخطر بباله يومًا؛ إنها كارثة...
انطلق الشيخ فتح الله إلى حيث يجلس الرجال والشباب يلعبون السيجة في الجرن القريب من المسجد؛ وأخذ يصرخ فيهم: (هل أنتم رجال..؟! يا للعار..؟ عيب عليكم والله... إزاي تسكتون على هذه المسخرة..؟ اخص على الرجالة).
ظل يردد هذا حتى تحلَّق الجميع حوله:
(فيه إيه يا شيخ فتح الله..؟ ما لك نازل فينا كده..؟!)
فقال لهم: (سايبين واحدة ست في عِزّ شبابها خالعة هدوما وبترقص جنب المنبر في المسجد..!!! اخص عليكم واحد واحد... رجالة عِرَّة صحيح).
ترك الجميع السيجة وانطلقوا إلى المسجد، وانطلق وراءهم الشيخ فتح الله، وما إن دخلوا حتى دخل وراءهم، وأغلق الباب وجعل ظهره إليه، ثم قال لهم بلهجته الرشيدية: (أنا أذَّنْت للظهر ولا حدّ عبَّرني وجايين دلوقت عشان تشوفوا الرقَّاصَة... مفيش رقَّاصة ومحدش خارج من الباب غير ما يصلي...).
إن الكارثة التي كان قد رآها هي أن الصَّلاة وجبتْ ولا أحدَ في المسجد سوى شيخ مسن مثله.

--------------
ولعل للحديث بقية...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products