خزانة الأديب :
ومن الشبه التي أثارها المشككون في إعجاز القرآن ما زعموه من إمكان وقوع المعارضة مما تبطل معه حُجّية التحدّي.
وفي سبيل نقض هذه الشبهة أخذ الخطّابيّ يشرح أوّلا مفهوم المعارَضة وصور وجودها في الشعر العربيّ وحدودها ورسومها المختلفة ولعلّ الخطّابيّ بهذا المنهج هو أوّل من شرع هذا الباب وأطال فيه المقال وفصّله وبيّنه بصورة جلية واضحة لا مزيد عليها.
وسبيل من عارَض صاحبه في أدبٍ أو شعْر أن يُنشيء له كلاما جديدا ويُحدث له معنى بديعا فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه، أو يتبارى الرجلان في شعر أو خطبة أو محاورة فيأتي كل واحد منهما بأمر محدث من وصف ما تنازعاه وبيان ما تباريا فيه يوازي بذلك صاحبه أو يزيد عليه.
نحو ما تنازعه امرؤ القيس وعلقمة الفحْل من وصف الفرَس وحكمت زوج امرئ القيس لعلقمة حين زعمت أنّ زوجها ضرب فرسه ومراه بساقيْه وهذا قد يقدح في قوته ونجابته بخلاف علقمة الذي أدرك طريدته دون ضرْب ولا تحريك ساقين ولا صياح هكذا:
فأدركهنّ ثانيا من عنانه ... يمرّ كمرّ الرائح المتحلّبِ
وكما وقع من الإجازة بين الشعراء على نحو منازعة الحارث اليشكريّ لامرئ القيس نفسه كما في قول امرئ القيس:
أحارِ ترى بُريْقا هبّ وهنًا
فأجازه الحارث بقوله:
كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارا
وقال امرؤ القيس:
فلم ترَ مثلنا ملكًا هماما
فقال الحارث:
ولم تر مثل هذا الجار جارا
هكذا يقول امرؤ القيس الشطر الأول من البيت ويجيزه الحارث في مُماتنة واقتدار وكان امرؤ القيس يماتن الشعراء جميعا من ذي قبل فيعجزهم فلما ثبت له الحارث اليشكريّ آلى على نفسه أن لا يماتن شاعرا بعده.
ومن صور المعارضة أيضا تَعاطِي الشعراء المعنى الواحد فيرتقي أحدهما إلى ذروته ويقصُر شأو الآخر عن مساواته في درجته كالأعشى والأخطل حين تنازعا وصف الخمْر فكان لأحدهما العلوّ وللآخر السفْل.
والسبب الذي دعا الخطابي للإطناب والتفصيل في شرح مفهوم المعارضة بين الشعراء وبيان وجوهها وتصرّفاتها في الكلام هو الحجاج المقنع الذي يبطل وصفَ المعارضة وجريانها على الكلام السفيه الذي نُسب إلى مسيلمة وغيره من مثل هذا الكلام الذي يقوم على التحيّف من ألفاظ الغير ومحاكاة النظم والجرْس دون التفطّن إلى وجوه المعاني والتهدّي إلى الملاءمة والانسجام في بناء النسق البياني.
قال مسيلمة الكذاب:
(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل) وهذا مطلع فيه تهويل وتصعيد وتفخيم ثم اقتصر في الجواب على ذكر الذنَب والمِشْفر!
وكأنّه أراد أن يحاكي لفظ القرآن في قول الله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} فتأمّل بُعْد ما بين كلام وكلام وهو درْس لو تعلمون عظيم لا يعرفه إلا من عرف مخارج الكلام ومرن على مقاطعه ومبانيه وعرف وجوه التلاؤم والنّظام.
فراجع نفسك الآن واشحذْ بصيرتك وأعد الفكر والنظر واقرأ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} فدلّ على الهوْل العظيم والآية الكبرى التي تفجع الناس يوم الفزع الأكبر.
بينما البائس المسكين لم يَزِد على أن قال: (الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب قصير ومشفر طويل) فاقتصر من هذا المخلوق الهائل العظيم على أقل شيء فيه فلم يكن بناء المعنى صحيحا فضلا عن أنه لم يأتِ بكلام جديد وإنما أخذ من لفظ القرآن وحاكى الصوت والجرْس وغفل عن المعاني فأخطأ الطريق وضل سواء السبيل.
وأمّا قولهم : (ألم ترَ كيف فعل ربك بالحُبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشا) فقد تحيّفَ لفظ القرآن أيضا ولم يبتكر حرْفا من عقله ومع ذلك أخطا سبيل النظم والمعنى معا لأنّ بناء النظْم على أسلوب (كيفَ فعلَ) أينما وقع في كلام لا يكون إلا في الأمر الشنيع والحادثة الفظيعة.
قال تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} فانظر -رحمك الله- كيف بُني الكلام وانسجم نظامه حيث ناسب أوّل الكلام آخره.
وأمّا الجاهل المسكين لم يقع في ذهنه الفرق الهائل بين سياق الرحمة وسياق النقْمة فقال (أخرج من بطنها نسمة تسعى) والولد نعمة ورحمة وليس عذابا ونقمة.
ثم أخطأ من وجه آخر حيث قال (من بين شراسيف وحشا) والولد مقرّه الرّحِم في بطن الأمّ ولا علاقة له بالأمعاء والحَشَا فكان جهله جهلا مركّبا، فأين هذا الكلام الساقط السخيف من كلام الله الخالق العزيز؟!!
وبهذا تعلم أنّ القوْم لم يصنعوا في معارضة القرآن شيئا والأمر في ذلك واضح لا يخفى على ذكيّ ... يُتبع إن شاء الله.
ومن الشبه التي أثارها المشككون في إعجاز القرآن ما زعموه من إمكان وقوع المعارضة مما تبطل معه حُجّية التحدّي.
وفي سبيل نقض هذه الشبهة أخذ الخطّابيّ يشرح أوّلا مفهوم المعارَضة وصور وجودها في الشعر العربيّ وحدودها ورسومها المختلفة ولعلّ الخطّابيّ بهذا المنهج هو أوّل من شرع هذا الباب وأطال فيه المقال وفصّله وبيّنه بصورة جلية واضحة لا مزيد عليها.
وسبيل من عارَض صاحبه في أدبٍ أو شعْر أن يُنشيء له كلاما جديدا ويُحدث له معنى بديعا فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه، أو يتبارى الرجلان في شعر أو خطبة أو محاورة فيأتي كل واحد منهما بأمر محدث من وصف ما تنازعاه وبيان ما تباريا فيه يوازي بذلك صاحبه أو يزيد عليه.
نحو ما تنازعه امرؤ القيس وعلقمة الفحْل من وصف الفرَس وحكمت زوج امرئ القيس لعلقمة حين زعمت أنّ زوجها ضرب فرسه ومراه بساقيْه وهذا قد يقدح في قوته ونجابته بخلاف علقمة الذي أدرك طريدته دون ضرْب ولا تحريك ساقين ولا صياح هكذا:
فأدركهنّ ثانيا من عنانه ... يمرّ كمرّ الرائح المتحلّبِ
وكما وقع من الإجازة بين الشعراء على نحو منازعة الحارث اليشكريّ لامرئ القيس نفسه كما في قول امرئ القيس:
أحارِ ترى بُريْقا هبّ وهنًا
فأجازه الحارث بقوله:
كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارا
وقال امرؤ القيس:
فلم ترَ مثلنا ملكًا هماما
فقال الحارث:
ولم تر مثل هذا الجار جارا
هكذا يقول امرؤ القيس الشطر الأول من البيت ويجيزه الحارث في مُماتنة واقتدار وكان امرؤ القيس يماتن الشعراء جميعا من ذي قبل فيعجزهم فلما ثبت له الحارث اليشكريّ آلى على نفسه أن لا يماتن شاعرا بعده.
ومن صور المعارضة أيضا تَعاطِي الشعراء المعنى الواحد فيرتقي أحدهما إلى ذروته ويقصُر شأو الآخر عن مساواته في درجته كالأعشى والأخطل حين تنازعا وصف الخمْر فكان لأحدهما العلوّ وللآخر السفْل.
والسبب الذي دعا الخطابي للإطناب والتفصيل في شرح مفهوم المعارضة بين الشعراء وبيان وجوهها وتصرّفاتها في الكلام هو الحجاج المقنع الذي يبطل وصفَ المعارضة وجريانها على الكلام السفيه الذي نُسب إلى مسيلمة وغيره من مثل هذا الكلام الذي يقوم على التحيّف من ألفاظ الغير ومحاكاة النظم والجرْس دون التفطّن إلى وجوه المعاني والتهدّي إلى الملاءمة والانسجام في بناء النسق البياني.
قال مسيلمة الكذاب:
(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل) وهذا مطلع فيه تهويل وتصعيد وتفخيم ثم اقتصر في الجواب على ذكر الذنَب والمِشْفر!
وكأنّه أراد أن يحاكي لفظ القرآن في قول الله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} فتأمّل بُعْد ما بين كلام وكلام وهو درْس لو تعلمون عظيم لا يعرفه إلا من عرف مخارج الكلام ومرن على مقاطعه ومبانيه وعرف وجوه التلاؤم والنّظام.
فراجع نفسك الآن واشحذْ بصيرتك وأعد الفكر والنظر واقرأ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} فدلّ على الهوْل العظيم والآية الكبرى التي تفجع الناس يوم الفزع الأكبر.
بينما البائس المسكين لم يَزِد على أن قال: (الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب قصير ومشفر طويل) فاقتصر من هذا المخلوق الهائل العظيم على أقل شيء فيه فلم يكن بناء المعنى صحيحا فضلا عن أنه لم يأتِ بكلام جديد وإنما أخذ من لفظ القرآن وحاكى الصوت والجرْس وغفل عن المعاني فأخطأ الطريق وضل سواء السبيل.
وأمّا قولهم : (ألم ترَ كيف فعل ربك بالحُبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشا) فقد تحيّفَ لفظ القرآن أيضا ولم يبتكر حرْفا من عقله ومع ذلك أخطا سبيل النظم والمعنى معا لأنّ بناء النظْم على أسلوب (كيفَ فعلَ) أينما وقع في كلام لا يكون إلا في الأمر الشنيع والحادثة الفظيعة.
قال تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} فانظر -رحمك الله- كيف بُني الكلام وانسجم نظامه حيث ناسب أوّل الكلام آخره.
وأمّا الجاهل المسكين لم يقع في ذهنه الفرق الهائل بين سياق الرحمة وسياق النقْمة فقال (أخرج من بطنها نسمة تسعى) والولد نعمة ورحمة وليس عذابا ونقمة.
ثم أخطأ من وجه آخر حيث قال (من بين شراسيف وحشا) والولد مقرّه الرّحِم في بطن الأمّ ولا علاقة له بالأمعاء والحَشَا فكان جهله جهلا مركّبا، فأين هذا الكلام الساقط السخيف من كلام الله الخالق العزيز؟!!
وبهذا تعلم أنّ القوْم لم يصنعوا في معارضة القرآن شيئا والأمر في ذلك واضح لا يخفى على ذكيّ ... يُتبع إن شاء الله.
