خزانة الأديب : الدكتور عزمي عبد البديع : في ظلال رسالة الإمام الخطّابي (ت388هـ) الموسومة بـ(بيان إعجاز القرآن)
ليس من المبالغة أن أقول إنّ الرسالة التي خطّها الإمام الخطّابي -رحمه الله-على إيجازها قد جاءت شافية في تقريب شأن الإعجاز إذ أبان فيها ظواهر التميّز والتفرّد في أسلوب القرآن الكريم بعدما أشار إلى أقوال أهل العلم في الإعجاز من مثل القول بالصَّرْفة والإخبار عن المستقبل والغيبيَات والبلاغة.
وخلص الخطابي إلى أنّ الإعجاز من جهة البلاغة هو الوجه الأمثل والأقرب للحق والصواب لاستمرار البلاغة في جميع سور القرآن الكريم دون تمييز وقد وقع التحدي في القرآن الكريم بمطلق لفظ (سورة) دون تحديد سورة بعينها وفق ما يقتضيه تنكير اللفظ في العربية.
لكن الإشكال يَعرِضُ من جهة تفسير البلاغة فالناس في تفسيرهم لها لم يبلغوا الحدّ المقنع وقد زعموا أن الكلام يقع فيه التفاوت من هذه الجهة دون أن يقف الناس على علل وأسباب ظاهرة مقنعة وإذا سئلوا أحالوا إلى كلام غير مفهوم.
ويفترعُ الخطابي الكلامَ ليمهد للناس السبيل إلى تقريب أمر البلاغة التي إليها مردّ الإعجاز فذهب إلى أنّ عمود البلاغة أي الأساس الذي تُبنى عليه هو الاهتداء إلى اللفظ الدقيق المُشاكل للمعنى والذي إذا أُبدل به غيره فسد المعنى من جهة وذهبَ رونقُ الكلام الذي يكون معه سُقوط البلاغة من جهة أخرى.
وإذا كان الكلام -على ما أبان الخطابيّ- يقوم على أركان ثلاثة هي اللفظ والمعنى والنّظْم فإنّ إعجاز القرآن الكريم مردّه إلى بلوغ ذروة الكمال من الجهات الثلاث فالقرآن إنما صار معجزا لأنه "أتى بأفصَحِ الألفاظِ في أحسنِ نُظُوم التأليف مُضَمّنا أصَحّ المَعاني".
وهذه الأمور الثلاث يستحيل اجتماعها على جهة الكمال في كلام آحاد الناس لأنّ البشر بطبيعتهم عاجزون عن الإحاطة بالألفاظ التي تنهض بها المعاني كما أنهم عاجزون عن تحقيق الكمال في استواء النظم وشرائطه والحال في معالجة المعاني وطرائق بنائها أشدّ من كل ما سبق؛ لهذا كان القرآن معجزا وإن كانت حروفه من جنس حروف العرب وألفاظه من ألفاظهم.
وكيف السبيل إلى بلوغ المعاني القرآنية وقد انتظم الحديث فيها عن توحيد الله تعالى الموصوف بالجلال والكمال والحديث عن مبدأ خلْق الإنسان والسماوات والأرض والملائكة والساعة والحساب والجنة والنار والحديث عن الأمم الغابرة وما وقع لهم من العبر والمثلات... ووقع تصريف هذه المعاني جميعها بكل وجوه الخطاب الممكنة التي تقطع رقاب المعاندين وتقيم عليهم البرهان والحجة.
إنّ المعاني الصريحة والمضمرة في القرآن الكريم لا يستطيع البشر ولو كانوا مجتمعين أن يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا على أنها لا تنتهي ولا تنفد ولا تخلَق على كثرة الردّ حتى قيام الساعة وهذا هو الإعجاز.
فمن كان منهم محسنا بارعا في اختيار الألفاظ وقع في خطَل المعاني ومن رام المعاني تنكّب صراط الألفاظ ومن اهتدى إلى اللفظ والمعنى قد لا يسعفه التوفيق في ترتيب جهات النظم على الوجه الذي يستقيم معه الكلام ويصل به إلى أعلى طبقات البراعة والفصاحة.
وما ذكره الخطابيّ في رسالته كلام عميق بعيدٌ غورُه يطول شرحه وتغمُض مسالكه ويحتاج في إدراكه إلى التنقيب في كلام العرب ودواوينها وقراءة الشعر الذي هو محلّ الاحتجاج وتربية الذوق والدّرْبة وطُول الخدمة والممارسة؛ لتُعرَف الوجوه التي يُبنى عليها الكلام وتقوم بها المعاني والتهدّي إلى رسوم النظْم المتباينة وهو جهد لو تعلمون عظيم لا يقوى عليه رجل ولا رجلان ولا عصبة من الناس.
وكان الأجدر بنا أن تجتمع أمتنا على كلمة سواء وأن يلتفت أولوا الأمر ومن ولاّهم الله تعالى شؤون معاقل العلم في أوطاننا إلى هذا التراث للعناية والاهتمام به والعمل على إخراجه وتلخيصه للناشئة عسى أن تهتدي عقولهم إلى ما لم نهتد نحن إليه ولا تعتقدوا أن الأول لم يترك للآخر شيئا فالأرزاق مقسّمة والحظوظ متفاوتة وفضل الله تعالى عظيم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا والحمد لله رب العالمين.
المصدر صفحة الدكتور عزمي الشخصية بالفيس بوك ورابطها هنــــــــــــــــا