خزانة الأديب :
كأن القرآن يتنزل من جديد (موسم 1440/2019 )
يقول الحق تبارك وتعالى :
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
هذه آية عجيبة. وهي ملخص شديد لحصاد التكوين والبناء.
الآية تضع نموذجين بشريين في المواجهة.
نموذجا أفسدته حضارة النعيم الحرام. وترف الحكم الذي تنامى بمعزل عن عن قيم الوحي وأخلاق المروءات. وهو نموذج امرأة العزيز.
ونموذجا ضبطته تربية بيت عريق في النبوة. وغذته روافد عز الطاعة ومراقبة الله . وسقته عروق أعلى مراتب المروءات.
وأنت واجد فارق ما بين النموذجين فيما يلي :
النموذج الفاسد ينطق خطابه بالشهوة. ويستطيب الدعوة إلى الرغبة الحرام وهو بعض ما يسكن بنية التركيب القرآني (وراودته التي هو بيتها عن نفسه ).
ثم النموذج الطاهر الذي ينطق خطابه بميراث الأمانة
ويلوذ بجناب الله ويحتمي به ويعتصم به وهو ما يسكن التركيب العجيب (معاذ ربي إنه أحسن مثواي ).
مرة أخرى خطاب النموذجين مختلف.
الفاسد يستعمل محددات الحضارة للعبث وتدمير الذات (وغلقت الأبواب ).
والأبواب ليست تستر من الله.
الأبواب نعمة وحضارة انقلبت إلى آلة عصيان ومبارزة لله.
الفاسد يستعمل نعمة الله في النفس في التوصل إلى الشهوات والملذات والفاحشة.
امرأة العزيز تذرعت بالنعمة والنعومة والأنوثة والدلال لكي تهبط إلى مدارك الشهوة البهيمية التي تفور فتغلب داعية العقل.
والطاهر يعرف أن الحضارة هي تذكر المنعم.
وأن الحضارة هي القيام بواجب الأمانة.
وأن الحضارة هي الترقي في مدارج العقل وضبط النفس وعدم الانسياق وراء الشهوة البهيمية.
الآية تلخص واحدا من صراعات الحياة.
صراع الشهوة المعزولة عن الدين والمروءة والعقل في مواجهة التمسك بالدين والمروءة والعقل.
صراع السلطة والحكم الفاسد في مواجهة ميراث الأخلاق والقيم والأمانات .
صراع النعمة بوصفها طريقا للطغيان والعسف وغصب ما عند الناس في مواجهة حفظ الحقوق ورعاية الواجب وحفظ النعمة من طريق شكر المنعم.
صراع نموذجين معرفيين متعاندين . ينطلق أحدهما من التكبر في الأرض والعلو بسبب الثروة والحكم والتابعين.
وينطلق آخرهما من الإيمان وشكر المنعم وتقدير قيام إله كريم بإدارة الكون وتذكر قيوميته.
الآية تقرر أن طريق سقوط الحضارة ماثل في طاعة الشهوة والسقوط الأخلاقي ومعاندة الله وانتشار المجون والتسلط على الأتباع باسم الحكم ومحاربة الله بنعمه وما أكرم به من محددات الحضارة.
الآية تقرر أن طريق الصعود الحضاري في حفظ الله. وحفظ النعمة بشكر المنعم سبحانه. ورعاية الأمانة. والاستقامة. والابتعاد عن الشهوانية. وحفظ الرعية. وعدم الاستطالة بالحكم. وعدم التكبر بالمال. وعدم التوحش.
الآية تضرب مثالا بين فريقين واضحين يسير أولهما نحو الهاوية من طريق الشهوانية المتسلطة وآخرهما يسير نحو القمة الشماء من طريق الاستقامة والعقل ورعاية الأمانة.
الآية تعالن بقانون السماء الذي يهوي بالأفراد والأمم عندما ينطلقون من ظلم النفس وظلم الناس وظلم الحياة.
وتعالن كذلك بقانون السماء الذي برقي بالنفس والناس والحياة عندما ينطلقون من الفرار من الظلم.
الآية تختتم أمرها بقانون عمراني وأخلاقي واجتماعي :إنه لا يفلح الظالمون.
الآية تختتم أمرها بصيحة تحذير مدوية تضمن الاستجابة لها بقاء الحياة ونهوض الحياة وترقيها.
الأستاذ الدكتور خالد فهمي
أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة المنوفية