الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (43)

خزانة الأديب :
 الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام 
الحلقة (43) من قلب قرية دسيا 


عندما يتطرَّق الحديث عمدًا بين أخي وضيوفنا من الأقارب أو الأصدقاء إلى القوى الروحية الخفية، كنت أنسحب في هدوء إلى داخل المنزل وأجهز الطَّبَقَيْنِ، ثم أعود دون أن يشعر بي أحد لأستمع إليهم وأتابع النتيجة منتظرا سهرة ماتعة من المسامرة والضحك من القلب.
كان أخي يوهم أحدهم بأنه لو أمسك طبقا بيده اليسرى وجعله قائمًا على ذقنه تماما، ووضعنا فيه عملة معدنية، ووقف مقابل أخي الذي يمسك بطبق مثله بالهيئة نفسها على مسافة مترين، ويقلد ما يفعله من حركات وهو مركز النظر في عينيه، فسوف يرى تلك العملة المعدنية وهي تنتقل من طبقه إلى الطبق الآخر في مشهد عجيب.
كان الذين سبق لهم مشاهدة ذلك من الحاضرين يؤكدون صدق هذا الحدث، فيتوق من لم يجربه من قبل إلى مشاهدته هو أيضًا، فيوافق فورًا على خوض التجربة، وبمجرد أن يقول لي أخي: (هات طبقين من جِوَّه يا إيهاب) أدخل إلى البيت وأعود بالطبقين في ثوانٍ... لم يكن الضيف يتخيَّل أن ذلك الطفل الوديع المؤدب الهادئ -الذي هو أنا- قد تَسَحَّبَ من دقائق وجَهَّزَ الطبقين من تلقاء نفسه، فسلَّطَ على أحدهما من الأسفل هباب اللَّمْبَة الكَشْف، وما أدراك ما اللمبة الكشف..؟ تلك التي كانت تُعَبَّأ بالجاز وبها شريط من القطن ولها يد، وضوؤها مكشوف دون زجاجة، ولذلك سُمِّيَتْ باللمبة الكَشْف، كانت تُستخدم في القرى قبل دخول الكهرباء لاستطلاع أي أمر سريع في ظلام الليل، وكان ضوؤها ضئيلا ودخانها عظيمًا.
أعود حاملا الطبقين بعدما يكون صاحبنا قد وقف متسمِّرا أمام أخي فأعطيه الطبق المهبب من أسفله، وأضع فيه العُمْلَة المعدنية، وأعطي أخي طبقًا مثله ولكنه نظيف، فيبدأ أخي بحك إصبعه أسفل طبقه والتخطيط على وجهه برسم شارب وأشكال عجيبة، والمسكين أمامه لا يحيد عن النظر إلى عينيه ويفعل مثلما يفعل، مهبِّبًا وجهه بالهباب الذي أسفل طبقه، ولا يدري لماذا يكاد الحاضرون يموتون ضحكًا مما يفعله في نفسه، ولا يزيده ضحكهم إلا تركيزًا وتنفيذًا لما يفعله أخي تمامًا وهو ينتظر انتقال العملة المعدنية من طبقه. لم نكن نكذب عليه، فكنت آخذها بيدي وأنقلها للطبق الآخر، عادي جدًّا... ولكن بعد أن نكون قد شبعنا ضحكًا، ثم أُحضر له المرآة وإبريق المياه والصابونة والفوطة ليرى وجهه أوَّلا، ثم أصب عليه الماء ليغسل ما جناه بيده.
كان لِسَمَرِ الرِّفَاق في منزلنا في الفترة بين منتصفي السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن الماضي متعة خاصة، ولا أزال أتذكر من تلك الألعاب أمرًا جِدُّ عجيب، وهو أن يقعد أحدهم على كُرْسِيٍّ، ويقف أخي ومعه ثلاثة من الرفاق حوله، اثنان عند كتفيه واثنان عند ركبتيه، ثم يُشَبِّك كل منهم يديه فاردًا السبابتين، ويجرب الأربعة حمله بأطراف أصابعهم المفرودة، اثنان من تحت إبطيه واثنان من ركبتيه، وطبعًا لا يستطيعون، فيقفون معتدلين صامتين، وينفذون ما يفعله أخي في صمت وتركيز، يفرد أخي يده اليُمْنَى فوق رأس القاعد بحيث لا تلمسه، وتتوالى أيدي الرفاق فوقها دون ملامسة، ثم تُفْرَدُ الأيدي اليسرى، فتجتمع على رأسه ثمانية كفوف كأنها بُرْجٌ دون أية ملامسة، يستقر هذا الوضع لثوانٍ، ثم تنزل الأيدي بالتتابع من أعلى إلى أسفل، ثم يعاودون حمل القاعد بأطراف أصابعهم معًا متبعين أخي، فيصعد معهم إلى سقف الحجرة.
كان شرط هذه اللعبة الصمت الكامل وعدم تلامس الأيدي مطلقا، فإذا حدث شيء من هذا أعيدت من البداية.. وفي يوم استدعى الرفاق (أتخن واحد في البلد) مُتَحَدِّينَ به أخي ولكنه ارتفع إلى سقف الحجرة بالفعل.
كان الذين يحملون لا يشعرون بأنهم يحملون شيئا والقاعد لا يشعر بأن أحدًا يحمله، ومهما حاول الرفاق حمله في البداية قبل اتباع ما يفعله أخي لا يستطيعون، بينما يصعد في سهولة بعد ذلك... وغير ذلك من الألعاب الممتعة.
وفي عام 1980 كنت قد أتممت الدراسة الابتدائية، وكان أخواي عبد البديع وأنيس وأصدقاؤهما جميعًا بين من أتم دراستَهُ الجامعية، ومن هو في الجامعة، أو أتم الشهادة الثانوية التجارية... ولا أزال أتذكر ذلك اليوم الذي كلَّفَنِي فيه أخي عبد البديع بأن أمرَّ على رفاقه من شباب البلد جميعًا، أدعوهم لشرب الشاي في منزلنا بعد صلاة المغرب يوم الجمعة المقبل، لم أكن أعرف السبب، ولم يكن مألوفًا أن تكون الدعوة مجهولةَ السبب...!!
كان أخي عبد البديع من طليعة الذين تدربوا في معسكرات الشباب وإعداد القادة التي نظمها الاتحاد الاشتراكي بعد ثورة يوليو، فكان يمكث مع رفاقه لأسابيع ثلاثة في معسكرات تقام في مديرية التحرير تتضمن برامج رياضية وتثقيفية مكثفة، حتى إنه تقلَّدَ أمين الشباب في زمام قريتنا ولم يبلغ 15 عامًا.
مررت على الأساتذة: (عماد حمدي، وحمادة عبد ربه، ومكرم محمود، ومحمد عبد المنعم، ومحمد أحمد، وغيرهم...) من شباب الجهة البحرية من البلد، أما شباب الجهة القبلية فقد أبلغهم عبد البديع بنفسه، فكانوا يمرون من أمام بيتنا جيئة وذهابًا، ولا أنسى حين بلَّغْت الأستاذ (محمد أحمد Mohamed Shokr) وكان يحب أن يداعبني، فقال لي: فيه حاجة؟
قلت: لا مفيش حاجة.
فقال: احلف بالطلاق.
فخجلت من أنطق هذه اليمين، وأنا ابن اثني عشر عامًا، ولكنه أصرَّ، وقال: لن أحضر إلا إذا حلفت بالطلاق. فقلت: وعليَّ الطلاق ما فيه حاجة. وظللت لأعوام متوجسًا من هذه اليمين، وأتساءل بين نفسي: هل لو كبرتُ وتزوجت ستقع عليَّ طلقة بأثر رجعي..؟!! (تفكير عيال).
اجتمع الشباب جميعًا في الموعد المحدَّد، ومَنِ الَّذي يرفض لقاءً في دارنا مع بديع وأنيس، حيث الشطرنج، والدومينو، والطاولة، والسَّهَر للصباح، والضَّحِك حتى مشارِف الإغماء..؟ (وكان يقال لأخي بديع اختصارًا لعبد البديع).
كان العدد حوالي عشرين، جميعهم أكبر مني بحدود عشر سنوات، ولكنهم جميعًا كانوا يعدونني صديقًا لهم، ورغم أنني كنت منشغلا بإدخال الشاي إليهم فقد تابعت اللقاء...
عرض أخي على الشباب أن يكون لهم لقاء أسبوعي فيما يشبه الصالون الثقافي في المندرة عندنا، وأن يكون لذلك اللقاء برنامج ثابت يتضمن حفظ ربع من القرآن الكريم أسبوعيًّا، يقوم بقراءته زميلهم الشيخ (عبد الهادي عثمان) فقد كان الأزهري الوحيد من بينهم، على أن تتضمن قراءته شرحًا للمعاني، وإشارات لغوية وأدبية وتفسيرية، ويلقي درسًا من دروس الفقه، ثم يكون اللقاء مفتوحًا للحوار والمسامرة والإبداع لمن يشاء... وقال أخي: إن القرآن 240 ربعًا، ولو داومنا على ذلك خمس سنوات سنتم حفظه وفهمه جميعًا دون عناء.
وافق الجميع على الفكرة؛ فمجرد التقائهم أسبوعيًّا متعة حتى لو دون هدف سوى اللقاء، وبدأوا يتشاورون في التفاصيل، هل يبدأون الحفظ من الجزء الأول أم الأخير... وهكذا.
فقال أخي أنيس: أنا عندي فكرة. فسكت الجميع ليستمعوا إلى فكرة أنيس. فقال بحماس: (إحنا عددنا ما شاء الله كتير، وأنتم شايفين مشكلة الناموس، لو كل واحد فينا قتل ناموسة كِدَهُهْ –وخبط يديه في بعضهما كمن يقتل ناموسة في الهواء- في كام يوم حنخلص على الناموس كله، وبعدين نبقى نشوف موضوع القرآن).
ضحك الرفاق، وتم الاتفاق... على الحفظ طبعا وليس على قتل الناموس.
اقترح الشيخ عبد الهادي في الجلسة الأولى أن نحفظ أسماء سور القرآن بترتيب المصحف، ولتسهيل ذلك اشترك الجميع في سردها في قصة مترابطة، فقالوا: (فتحنا على بقرة آل عمران فأقامت لنا النساء مائدة وعرفناها من الأنفال التي كانت عليها، وهكذا...).
استمرت هذه اللقاءات لأربعة أسابيع، حفظوا فيها أربعة أرباع من أول المصحف بالشرح والتفسير، والإشارات اللغوية والبلاغية، وحفظتُ معهم، وحفظ أنيس. وشرَحَ الشيخ عبد الهادي باب الطهارة والوضوء في الفقه، ولأول مرة كنت أسمع كلمة (حُكم السُّؤْر)... ولا أدري لماذا توقفت اللقاءات بعد ذلك.
- هل فترتِ العزائم..؟
- أم سافرَ أكثر الشباب للعمل في الخارج فتشتت الشمل..؟
- أم لأننا كنَّا قد وصلنا إلى آخر آية في الحزب الأول من القرآن الكريم، هي قوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أوْ أَشَدُّ قَسْوَة...) فحفظنا الآية قولا وطبقناها فعلا..؟!!
لست أدري...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products