خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (42) من قلب قرية دسيا
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (42) من قلب قرية دسيا
(إوْعَى النَّاف... إوْعَى النَّاف...)
لم يكن أحد يمشي على الزراعية (الطريق الترابي بين المزارع) ليلا فيسمع هذا التحذير، إلا أسرع -دون تفكير- إلى أحد جانبيها جاثيًا على ركبتيه، وقد ينام على بطنه ملتصقًا بتراب الزراعية حتى يمر النَّاف بسلام. فما هو ذلك النَّافُ المرعب..؟
كان ري الأرض يتم عن طريق السواقي التي يجرها الثيران أو الأبقار، ولكي تدور الساقية فعلى الثور أن يجرَّ خشبة متصلة بتروس الساقية، ولكي لا يمشي الثور بعيدًا عن مدار الساقية يتم توصيل عنقه بخشبة معلقة بمحور الساقية، لضمان الدوران في مسار دائري منتظم، تلك الخشبة لا يمكن تثبيتها، وكان اسمها (النَّاف) وإذا تركها الفلاح في الحقل فربما تعرَّضت للسرقة، فكان عليه أن يعود بها إلى منزله بعدما ينتهي من ري الحقل، وقد تكون العودة في ظلام الليل.
لم يكن الفلاح يحمل ذلك النَّاف على كتفه، وإنما يأخذه أمامه وهو راكب حِمَارَهُ، ويوسطنه تماما ليكون متوازنًا، وكان طول ذلك الناف أكثر من مترين، والزراعية التي يمشي عليها لا يزيد عرضها عن مترين مما يجعل الناف يقطع عرضها كاملا ويزيد، فإذا سرى الفلاح ليلا راكبًا حماره مسرعًا على الزراعية وأمامه الناف بدَا كجناحي طائرة منطلقة بارتفاع متر ونصف، فإذا مر على أحد يمشي على قدميه في ذلك الوقت فسوف يحشُّه حشًّا، ويقصِمُ ظهره قَصْمًا، ويرزعه على الأرض رزعًا، وربما قضى عليه وتسبب في أجله.
فكان الفلاح الذي يحمل ذلك الناف أمامه قاطعًا الزراعية في ظلام الليل إذا أحس بأي إنسان يمشي على بُعْدٍ أمامه ظل يردد بأعلى صوته: (إوْعَى النَّاف.. إوْعَى النَّاف..) ودون أن يلتفت الذي يمشي على قدميه ينبطح فورًا دون تفكير ريثما يمر الحمار المُجَنَّحُ في سلام من فوقِ رأسه، ثم يقف ويواصل مسيره وهو يتحسس جسمه مطمئنًا أن الناف لم ينل منه.
ظلَّ أهل القرى دهرًا كاملا يحملون النّيُوفَ ذهابًا وإيابًا إلى الحقل، ويحملون بين جوانبهم قلوبًا صافية تميل إلى الدعابة والمزاح. أذكر ذات ليل كان اثنان يمشيان على الزراعية فاستمعا إلى ذلك التحذير اللاهث (إوعى الناف...) وفي سرعة انبطح كل منهما على أحد جانبيها، وإذا بصاحب التحذير يمر من بينهما لا يحمل شيئًا ويلقي السَّلَام ضَاحِكًا:
- سَلامُ عَلِيكُمْ يا رِجَّالَة، مَا لكم نايمين على الأرض كده..؟!
- تِصَدَّقْ إنَّكْ دَمَّكْ خَفِيف... يَا رِخِم.
كانت صناعة الضَّحِك من الصناعات التي يجيدها أهل قريتي الطيبون، ولهم فيها طرائق، ومواقف ومقالب جد طريفة. والحقيقة أن كَوْنَ القريةِ مُجتمعًا زراعيًا في المقام الأول لم يكن يمنع العديد من الصناعات الفعلية، بل إنني أزعم أن الجميع كانوا صُنَّاعًا ماهرين، الأطفال والرجال والنساء، يصنعون بأيديهم كل ما يحتاجون إليه، أما الأطفال دون سن العاشرة فكانوا يصنعون لُعَبَهُم من الطين ويتركونها تجف في الشمس، ويتفنون في صناعتها بدقة بالغة.
أما فوق السنوات العشر فكانت لنا طرائق عجيبة في صناعة اللُّعب، أتذكر منها أعواد الغاب (البُوص) فكنا نقشرها ونشقها إلى شرائح، ثم نأتي بقصاصات من المشمع نشعلها فتنقط البلاستيك المنصهر، فنستخدمه كلاصق لشرائح البوص، ونصنع منها طائرات وسيارات صغيرة في غاية الجمال.
أما صناعة الطائرات الورقية والتباري في تطييرها فحدِّثْ عنها حديثا ماتعا، وأحيانا كان يشترك فيها الكبار مع الصغار، وكانوا يتفنون في ضبط هندسة شكلها، وتنوع ألوانها، وتزيين ذيلها، ومدى تطييرها.
أما الكُرَةَ فَكُنَّا نستغرق ساعات في صناعتها بإحكام. ولا أنسى يوم أن أحضرنا ثلاث (بالونات) كبيرة، وأدخلناها في بعضها، ثم نفخناها، وأحطناها بقماش، ثم شددنا حولها الدوبار بإحكام، وقد تجمَّع الأطفال والشباب يشاركون بحماس في صناعة الكرة منتظرين اللعب، وظللنا نشد عليها الدوبار حتى صارت كأنها كرة (كَفَر) ولكي لا يفلت ذلك الدوبار أدخلناها في جورب أبيض واسع، ثم ضممنا أطرافه عليها وخيَّطْنا الأطراف بإبرة في حذر شديد حتى لا تصيب (البالونات) أكثر من ثلاث ساعات قضيناها نصنع كرتنا بأيدينا، حتى بدت كما لو كانت صناعة آلية، ولإعجابنا بها أشار أحدنا بأن نزينها بقطع قماش سوداء على أشكال سداسية لتبدو كالكرات الجاهزة. رفض بعضنا الفكرة على أساس أن الكرة بهيئتها تلك كافية للغرض، وأصر بعضنا على إتمام زينتها أولا... وبدأنا التزيين، وكان يتم بخياطة تلك القطع المسدسة بلطف في الجورب (الشراب) المحيط بالكرة... وفي آخر قطعة بل في آخر غرزة كانت اليد قد ملَّتْ من التركيز فتسلل طرف الإبرة عبر الجورب وكانت الفاجعة...
ذلك جانب مما كان يصنعه الصغار، أما الرجال فكانوا يصنعون العديد مما يحتاجون، وأذكر من ذلك فقط صناعة الحِبَال، فلم يكن أحد في القرية يشتريها مطلقًا، بل يزرعون التِّيل حول حقل القطن، ثم يفتلون منه ما يشاءون من حِبَال من جميع الأطوال والأحجام ولجميع الأغراض التي يحتاجونها، لربط مواشيهم، أو جَدْلِ أسطح البيوت من البوص، أو غير ذلك... كانت الحِبَال من التيل لطيفة على أعناق البهائم، لا أدري لماذا توقفت زراعة التيل وصناعة الحبَال منه، وأصبح الفلاحون يشترون حبالا من الألياف الصناعية مستوردة من الصين تجرح أعناق البهائم.
وانقرض ذلك المشهد اللطيف في الليالي الصيفية، حيث يُبَدِّل الأطفال طَرَفَي الحبل في أثناء الفتل على آبائهم وأجدادهم وهم يفتلون التيل. وتتم صناعة الحِبَال على أعينهم.
أما سيدات البيوت فكن ماهرات في صناعة كل ما يحتجن إليه، حتى المفراك الذي يحتجنه في مطبخهن، كنَّ يصنعنه من البوص بأيديهن، وهو يشبه (مضرب البيض الآن).
أما الصناعة التي تميزت بها قريتي، وكانت لا تزال إلى عهد قريب أوائل التسعينيات، فهي –كما ذكرت- صناعة الضَّحِك، ولا أدري هل لا تزال موجودة، أم استبدلوا بها ضحكا صينيًّا، لا يتجاوز الحلوق، ولا ينفذ إلى القلوب، ولا يستمر سوى لحظات يعود الضاحك بعدها إلى اكتئابه.
استمرت صناعة الضحك إلى التسعينيات، وأذكر من شواهدها الكثيرة واقعة واحدة:
كانت خطوط الهواتف المنزلية قد وصلت قريتنا حديثا، وذات ليلة حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل رن هاتف أحد وجهاء دسيا، فاستيقظ ورفع السماعة...
- ألووو.
- أيوة بيت الشيخ فلان..؟
- أيوة يا ابني خير أنت مين..؟
- إحنا السنترال.
- خير يا سنترال...؟
- فيه سدة في الخطوط وإحنا من الصبح بنسلك فيها، واكتشفنا إنها في السلك اللي عندك.. لو سمحت انفخ لنا نفختين في السماعة عشان تسلكها.
لا حول ولا قوة إلا بالله... هكذا ردد الشيخ وقد أغلق السماعة في وجه ذلك الظريف. حاول أن يعاود النوم فلم يستطع، فتساءل في نفسه: (مين في البلد اللي ممكن يعمل كده..؟ آه مفيش غيره... هو مفيش غيره).
كان أنيس أخي قد وصل في عمله إلى درجة (مدير بنك) ولكنه يظل موضع الاتهام الأول في المقالب الظريفة، وإذا بالشيخ الوقور يمشي إلى بيتنا وينادي أنيسا...
- يا أستاذ أنيس...
أطل أنيس من الدور العلوي، وعرفه فنزل مسرعا
- خير يا مولانا..؟
- مش عيب عليك تتصل بي وتقول كذا...
- والله ما حصل مني.. بس أنا زعلان .. إزاي ما يحصلش مني..؟ دي شغلانة زي الفل... تعالَ تعالَ يا مولانا دا فيها ضحك للصبح.
طار النوم تماما، وقعد أنيس مع ضيفه الكريم يحتسيان الشاي ولم يتركا صديقًا لهما إلا أيقظاه كي ينفخ في السماعة ليسلك السلك، وقد استجاب الكثيرون وظلوا ينفخون...
- أيوة كده تمام... وكمان نفخة الله يكرمك.. يسلم فمك.
