الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (36)

خزانة الأديب :
 الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (36) من قلب قرية دسيا



لم تكن الأخلاق دروسًا نظرية، أو موضوعات دراسية في كتب مدرسية، وإنما كانت حياةً مَعِيشةً، أسلوب حياة كاملا متكاملا، يُصَدِّرُ للأطفال ما ينبغي أن يكونوا عليه، بل يعمل على تكوين الشخصيَّة من البداية في مجتمع جعل من تلك المبادئ حياته اليومية، وإني لأتذكر بعض المشاهد التي قد تكون مضحكة إذا تكررت في زماننا؛ ومن ذلك رأيت النساء إذا مرَّتْ في الطريق على بعض الرجال خلعت حذاءها وأمسكته بيدها قبل أن تصير أمامهم بمسافة بضعة أمتار، ثم تعيد لبسه في قدميها بعد أن تجتازهم بمسافة مساوية، قد لا تلقي عليهم التحية، وإنما ترى أنه من العيب أن تمر عليهم لابسة حذاءها.
ورأيت العديد من شباب القرية ورجالها، لا يمرون أبدًا على من هو أكبر منهم سنًّا وهم يمتطون شيئًا، فينزلون قبل المرور بمسافة أمتار، ويسحب كل منهم مطيته مارًّا من أمام الكبار سنًّا ملقيًا السلام، فلا يليق أبدًا أن يمرَّ عليهم راكبًا... لَكَم كان يترك هذا المشهد فيَّ من الأثر، ويغرس من القِيَم، ولعلَّ تلك من شيم العرب سجَّلها الشاعر العباسي أبو نواس في قوله:
وإذا المَطيّ بنا بَـلَـغْنَ مُحَمَّـدًا ** فَـظُـهُورُهُـنَّ عَلَى الرِّجَالِ حَـرَامُ
رأينا ذلك كثيرًا في صغرنا، فلم يكن احترام الكبير كلامًا، وإنما هو أفعال تُمَارس، وحياة يعيشها الجميع.
وإذا شئت درسا عمليا في التعاون، فليس أبلغ من العمل بطريقة (الزَّمَل) وقد كان الناس يعتمدون عليها بصفة أساسية إذ لم تكن الآلات الزراعية قد استُجْلِبَتْ للعمل في المحاصيل، فكانت أغلب أعمال الزراعة الشاقة تتم يدويًّا؛ فمثلا حصاد فدان من القمح أو الأرز يحتاج إلى 14 عاملا، فكان الفلاح الذي ينوي حصاد أرضه، يدور على أهل القرية يدعوهم لحصادها معه في يوم محدد، فيسأله كل من يدعوه: (أٌجْرَة ولَّا زَمَل..؟) والأجرة تعني أنه سيأخذ أجرته نقدًا عن العمل في ذلك اليوم، وغالبا ما يتم الاعتذار عن العمل بالأجرة ولا يوافق عليه إلا الذين لا أرضَ لهم. أما (الزَّمَل) فيعني أنه دون أجرة نقدية، وإنما على صاحب الأرض أن يردَّ له ذلك بأن يَحصد معه أرضه يوم حصاده. إن أبلغ العبارات والنصائح في الحث على التعاون لن تكون أجدى أبدًا من هذه الممارسة العملية؛ (أعمل معك في حقلك مقابل أن تعمل معي في حقلي).
حتى تلك العبارة التي يرددها العديد من المنتسبين إلى الثقافة (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) رأيتها في قريتي متجسدة بصورة لا أظنها تتكرر في العالمين، وذلك ما كان بين خالي أحمد الرامخ وعمِّ محمد الشيخ عليهما رحمة الله.
لم يكن يفصل بيتيهما سوي بيتين فقط، وكلٌّ منهما يروقه القعود أمام بيته فكانا يريان بعضهما، حيث تفصلهما مسافة حوالي 40 مترا، وكان بينهما خلاف في الرأي، فظلا فترة متخاصِمَيْن لايتخاطبان، وكان عَمّ محمد الشيخ غالبًا لا تنطفئ له نار، إما للتدفئة في الشتاء أو لعمل الشاي... فكان إذا صنع الشاي لا تطاوعه نفسه في أن يشربه دون أن يرسل كوبا لصديقه (خالي أحمد) وهو يراه بعينيه رغم أنهما متخاصمان، فيصب له كوبا، ويطلب من أي إنسان يمر أمامه أن يوصله؛ فيقول له: (وصل الشاي ده للـ..ار اللي قاعد هناك ده). يحمل الشاب أو الطفل الكوب وهو يضحك من تلك المفارقة العجيبة، كيف يرسل له الشاي وهو يشتمه..؟! فيسلمه لخالي أحمد مبتسمًا، فيأخذه وهو يفهم الرسالة ضِمْنًا، فيشربه ثم ينتظر من يمر فيقول له: (وصل الكوب ده للـ..ار اللي قاعد هناك ده). كانت تتخاصم ألسنتهم، أما قلوبهم فلها شأن آخر.
أما عن استخدام المناسب في المكان المناسب فقد تجسَّد ذلك فيما كان من شأن القروي المزارع في عمله بانسجام عجيب مع مواشيه، في فترة السبعينيات وما قبلها، حيث كان لكل كائن ما يجيده من أعمال الحقل، بل بكيفية محددة، خذ مثلا هذا المثال: لزراعة الأرز يتم حرث الأرض، ثم غمرها بالماء بارتفاع أكثر من شبر، ولا تتم الزراعة إلا إذا تمت تسوية الأرض تماما كأنها حصير، ويكون ذلك بخشبة ثقيلة مستعرضة مثبت في مقدمتها شريحة من الحديد، تسمى هذه الخشبة (المَهَّادَة) أي التي تمهد الأرض لزراعة شتلات الأرز، العجيب أنه لم يكن يصلح لهذه المهمة من المواشي سوى البقر، لا بد من بقرتين تجران الخشبة من طرفيها الأيمن والأيسر، لم تكن الثيران تجيد هذا العمل مطلقا، فهو خاص بالبقر دون سواه.
كانت الثيران هي الأنسب لإدارة الساقية لري الزرع، ولكنها لا تجيد تمهيد الأرض بتاتا البتة، ولو استعان بها الفلاح لأفسدت الأرض، وكأنَّ تمهيد الأرض يشبه ترتيب البيت، وضخ الماء يشبه جلب المال، فهل لذلك ارتباط بالأنوثة والذكورة؟ ربما!
الأمر الأكثر عجبًا هو أن بعض البقر كانت لا تجيد سحب المهَّادة إلا من الناحية اليمنى، وبعضها لا تجيد سحبها إلا من الناحية اليسرى، فإذا استعان الفلاح ببقرتين في الموضع الذي يناسب كلًّا منهما، استطاع أن ينهي تسوية الفدان في ساعة زمن بكل هدوء؛ بمجرد أن يقول: (عَا يمين) تقف البقرة اليسرى وتدور اليمنى. فإذا قال: (عَا شمال) وقفت البقرة اليمنى، واستمرت اليسرى فدار بالمهَّادة شمالا. فإذا قال: (عَا مع بعض) تسحب البقرتان معًا.
أما إذا جازف واستخدم أية بقرتين دون مراعاة طبيعتيهما، فسوف يظل يصرخ في البقرتين لثلاث ساعات أو أربعة ولا ينهي الفدان بصورة جيدة.
قد يمتلك أحد الفلاحين ثلاث بقرات، ولكنه يضطر إلى أن يستعير بقرة من الجيران لتشارك إحدى بقراته تمهيد أرضه، والسبب أن بقراته الثلاثة يَمِين؛ وهو يحتاج إلى بقرة شمال...
حتى ذلك العمل المرهق في المزارع، والذي يتطلب بعضُه الاعتماد على الأيدي وليس الآلات، كان لشعبان عيسى رأي مختلف فيه.
مما ابْتُلِيَ به المزارعون أنهم إذا زرعوا أرضهم بنبات كالذرة مثلا نبتت معه كميات كبيرة من نبات (الرِّجْلَة) تظل بذوره مترقبة في الأرض، فإذا نبتت الذرة نبتت بجوارها فتشاركها السماد وتُضْعِفُ ثَمَرَتَها، وعلى المُزَارِعِ أن يقتلع تلك الرِّجْلَة بيده على مدار الفدان كله، وهو عمل مرهق وشاق.
كان للأستاذ هارون فدان من الذرة، ابْتُلِيَ بانتشار الرجلة فيه، والأستاذ هارون من خريجي دار العلوم وهو أستاذ فاضل من سدنة اللغة العربية، غير متمرس على أعمال الحقول، ولكن ما كان له أن يترك الرِّجْلَة تأكل ذراه أكْلًا، فأخذ يقتلع بعضها وهو في ضيق شديد، مرَّ عليه الشيخ شعبان عيسى بعدما استقر في بلده معالجا المكروبين:
- بتعمل إيه يا أستاذ هارون..؟
- الرِّجْلَة يا شيخ شعبان، شايف قد إيه...؟ منها لله حتبوظ الذرة.
- وأنت -إن شاء الله- حتخلعها في الفدان كله لوحدك..؟!
- يعني أعمل إيه..؟!
- اطلع يا راجل بلا تعب قلب وسيب الموضوع على الله ثم عليَّ... إديني أسبوع واحد وتعالَ شوف أرضك.
- يا شيخ شعبان الذرة حتبوظ... حتعمل إيه بس؟!
- أنا حا أخدمك... ارتاح أنت بس وتعالَ بعد أسبوع.
خرج الأستاذ هارون من أرضه وهو لا يدري ما سيفعله شعبان عيسى (وهو خسران إيه..؟) وبالفعل بعد أسبوع عاد إلى أرضه فلم يرَ فيها عود رجلة واحدًا..!!
كانت كل سيدة تأتي للشيخ شعبان في هذا الأسبوع تشتكي من أمر ما، يخبرها بأنه معمول لها عمل، والذي عمل العمل ذوَّبَه في الماء، ورشَّه في حقل الذرة الخاص بالأستاذ هارون، فنبتت الرِّجْلة من ذلك العمل، ولكي يتم فكُّه فعليها أن تأتي له بمقطف مليء بتلك الرجلة ليحرقها بنفسه...
وبركاتك يا شيخ شعبان...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products