خزانة الأديب :
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (35) من قلب قرية دسيا
إلا في ذلك اليوم، فقد أُسْقِطَ في يدينا أنا وأخي، ولم نجد له تفسيرًا، فسكتنا (وخلاص) كان الأمر يبدو غريبًا وخارقًا للعادة، ولم يكن كيوم (محلة بِشْر)...
الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (35) من قلب قرية دسيا
إلا في ذلك اليوم، فقد أُسْقِطَ في يدينا أنا وأخي، ولم نجد له تفسيرًا، فسكتنا (وخلاص) كان الأمر يبدو غريبًا وخارقًا للعادة، ولم يكن كيوم (محلة بِشْر)...
لجأ إلى أخي عبد البديع أحد معارفه من قرية مجاورة، ليرافقه في مشوار إلى (محلة بِشْر) وهي قرية كبيرة بين دسوق وشبراخيت، اشتهرت بل امتلأت بالدجالين الذين يسمون أنفسهم (مشايخ) وكان الناس يقصدونهم ليس من مصر فقط بل أحيانا من بعض الدول العربية لشهرتهم الواسعة، ولكن ما الذي كان يريده..؟!
كانت زوجته قد غضبت منه، ولزمت بيت أهلها، وبدلا من أن يذهب إلى بيت أهلها ليصالحها، ذهب إلى (محلة بِشْر)، ولجأ إلى أحد المشايخ، فأوهمه أنه سيجعل زوجته تأتيه إلى بيته بنفسها زاحفة على بطنها، وطلب منه عدة أشياء، ويجب عليه أن يعود لتسليمه ما أراد. كنت حاضرًا وذلك المسكين يحكي لأخي كيف هو مقتنع بأن زوجته ستزحف على بطنها عدة كيلومترات -لم تكن من قريته- حتى تدخل عليه بيته وتقول له أنا آسفة وغلطانة يا زوجي العزيز.
بلاش خيابة يا أحمد، تعالَ معايا أصالحك على مراتك، وخدها في إيدك وروَّح. (هكذا قال أخي).
- وأرُوح لها أنا ليه...؟ الشيخ حايخليها تيجيلي زاحفة على بطنها. المشوار بعيد وأنا عايزك تكون معايا تعالَ بس وشوف بنفسك.
لا حول ولا قوة إلا بالله، لم يقتنع بنصائح أخي ولا تعليقي عندما تدخلت في الحوار رغم سني الصغيرة آنذاك، فاقترح أخي أن أذهب معهما، وقال: هو لن يقتنع إلا إذا جعلناه يشاهد بنفسه؛ تعال نفضح هذا الدجال... وذهبنا ثلاثتنا.
20 كيلو فقط تفصلنا عن تلك القرية، ولكنها عالم آخر، ما إن ينزل غريب عن البلدة من السيارة على مدخلها، إلا تلقفه سماسمرة المشايخ، فإذا لم يكن قاصدًا شيخًا محددًا، أخذ كل منهم يغريه بأن شيخه أكثرهم علمًا وإعجازا، وقدرة على صنع المستحيل، فإذا انطلق مع أحدهم ليوصله إلى شيخه ظل يحكي له في الطريق بعض أخبار شيخه الخارقة، وتنتهي مهمته بتسليم الزبون إلى خَدَمِ الشيخ الذين يضمنون له نسبته، ثم ينطلق لاصطياد زبون آخر.
كان أحمد يمشي معنا منشرحا، كأنه قائد على موعد بنصر كبير، وانتظرنا دورنا للدخول إلى الشيخ في صالة كبيرة مليئة بالمنتظرين، ودخلنا ثلاثتنا، كان يقعد على مكتب وأمامه عدة كتب أعرفها جميعا، كان من بينها رياض الصالحين، وهي بريئة مما يفعل...
توجه الشيخ إلينا مبتسما، وقد قعدنا على كنبة مواجهة للمكتب تماما، يفصلها عنه أقل من متر، أخي في المنتصف وأنا عن يساره وأحمد عن يمينه، قال الشيخ وقد نظر في وجوهنا: أنا أحسدكم جميعا... لأن وقتكم مِلْكُكُم أما أنا فوقتي ملك الناس.
لمح الشيخ ابتسامة ساخرة على وجه أخي، وأكثر سخرية منها على وجهي، ونظرة إعجاب على وجه أحمد باشا، فلم يفرق بين الابتسامات وظنها كلها إعجابات. فأردف قائلا: وأي فلوس بتدفعوها لا أستفيد منها؛ فهي للمسجد الذي يتم بناؤه في البلد.
قال أخي للشيخ:
(أنا جي في مشكلة كبيرة ويا ريت تساعدني؛ مراتي مش طايقاني، لما أدخل البيت بتشوفني كأني عفريت، وبتبقى عايزة تخنق العيال، بخلَّصْهُم منها بالعافية، ولما أخرج من البيت بترجع طبيعية).
اكتشفت في هذه اللحظة أن لديَّ القدرة على ضَبْطِ النَّفْسِ، فلم يكن أخي تزوَّج في ذلك الحين ولا حتى مرتبطًا، ومع ذلك أبديت أسفا على حال زوجته معه.
سأل الشيخ أخي عن اسمه واسم زوجته، واسم أمها بالكامل، فذكر اسمه وذكر له اسمين وهميين لسيدتين.
نظر الشيخ في كتاب كأنه يبحث الحالة، وأحمد مستبشر بأنه سيعرف الحقيقة، وإذا بالشيخ يعلن النتيجة فيسرد توصيفا طويلا لحالة الزوجة: (ملموسة وملبوسة وعندها... ... ... وتحتاج إلى ... ... ...).
وقفنا أنا وأخي منتفضَيْن، وقد أشحنا بوجهينا عن الشيخ تمامًا، قال أخي موجها كلامه لأحمد الذي ظل قاعدًا:
- أنت لسه عايز حاجة من الرجل دا يا أحمد؟
لم يرد أحمد، وظلَّ قاعدًا، وكأنه وقع في حيرة شديدة، فقال أخي: هو أنا متجوز أصلا..؟! خليك براحتك.
خرجت أنا وأخي بسرعة، وتركنا أحمد، وانتظرناه دقائق خارج المنزل، فلحق بنا، ولكنه كان يمشي حزينا.
- ما لك يا أحمد؟
- الراجل ردَّ لي ما دفعته الأسبوع الماضي، وأنا خايف يأذيني أو يعمل فيَّ حاجة.
- طيب ما يأذينا إحنا... يأذيك أنت ليه؟ الله يهديك.
أما اليوم الذي أُسقط في يدينا فيه، فيَوْمَ أن سُرِق موتوسيكل من أمام أحد بيوت قريب لنا في القرية، وأصرَّ على أن يذهب لمن يفتح له المَنْدَل، فذهب أخي معه ليكشف ما يدور، كان فتح المندل يتطلب أن تأتي معك بطفل بين التاسعة والثانية عشرة، أخذا معهما طفلا من نجباء دسيا، سنه تسع سنوات بالتمام، لبق وشديد الذكاء... كان الأمر مختلفًا فالشيخ ليس منقطعًا لهذا العمل، هو موظف في وزارة الزراعة، ولا يلبس لبس المشايخ، يبدو كأي إنسان، والأمر الأعجب من ذلك كله أنه لا يطلب شيئًا، وإذا لم تُهْدِه بنفسك لا يتقاضى أجْرًا، انتظروه حتى عاد من عمله، فأحضر كوبًا نصفه ماء، وأعطاه للطفل، وطلب منه أن ينظر فيه، ثم قرأ عليه بعض الكلمات، ثم قال: احضر يا خادم البحار. ثم سأل الطفل: هل حضر..؟
- أيوه أنا شايفه في الكوباية قدامي.
- اطلب منه أن يجيب داركم.
- هات دارنا.. أيوه دارنا قدامي أهه.
- متأكد إنها داركم دلوقت..؟
- أيوه يا عم هي، حتى أمي خارجة منها أهه.
- طيب قل له هات دار فلان ساعة الموتوسيل ما اتسرق من قدامها، واطلب إنه يوريك السرقة كاملة.
طلب الطفل، وأخذ يحكي كمن يشاهد (فيلم تليفزيوني)... (شايف اتنين، سحبوا الموتوسيكل، دوَّرُوه، ركبَا عليه، ماشيين على الطريق، رايحين دمنهور، وصلوا دمنهور، واقفين قدام مزلقان القطر، القطر وصل، وقف القطر شالوا الموتوسيكل، حطوه في القطر... وانقطع الإرسال).
لم نجد تفسيرا لهذا كله، وعرفت بعد ذلك أن فاتحي المندل لا يزالون إلى اليوم، ولهم طرائق مختلفة حسب فصيلة الجن الذي يستعينون به، فإن كان من البحار حضر في كوب ماء، وبعضهم يفرد قطعة من القماش في حجرة مظلمة كأنها منشورة على حبل غسيل، ويضيئ خلفها شمعة، فتبدو كأنها شاشة LCD يعرض الجنُّ عليها الأحداث كاملة ويراها الطفل دون سواه.
وجميع فاتحي المندل يشتركون في أمرين؛ الأول: استخدام الأطفال فهم وحدهم الذين يشاهدون، وبالفعل يحضر الجن بلحمه ودمه (دا لو كان عنده دم أصلا).
الأمْر الآخر: أنهم لا يحلون مشكلة، ولا يفيدون في شيء، ولا يزيدون من يلجأ إليهم إلا رَهَقًا؛ وهو التعبير الذي ذكره القرآن الكريم (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).
لكن موضوع المندل جعلني أعود بالذاكرة إلى أمر حيرني كثيرا، وكتمته في نفسي... كان سني تسع سنوات، وكنت مع أخي أنيس وصديق له في مثل سنه في مولد الشيخ (إبراهيم الدسوقي) وعدنا في الهزيع الأخير من الليل، وكانت العودة مشيا على الأقدام، فكنا نستريح في محطات محددة، تكون قعدتنا على الكباري في الطريق، وكانت آخر استراحة على كوبري (عزبة أمين) وهو بعيد عن العزبة منعزل بين المزارع، وهو كوبري خشبي صغير على ترعة، وكان له جانبان يمكن القعود عليهما، قعدت بين أخي وصديقه على أحد جانبيه، كان الليل ساكنًا مهيبًا، والظلام شديدًا إلا من ضوء النجوم، كان أخي وصديقه يتسامران، وأنا أنظر إلى الجهة المقابلة من الكوبري، رأيت سيدة عجوزًا تلبس ملسًا أسمر ولها وجه أبيض، لا يفصلنا عنها سوي مساحة الكوبري أربعة أمتار لا أكثر، تمشي السيدة إلى أحد جانبي الكوبري، فتنحني تنظر في مياه الترعة، وتنادي بصوت مدوٍّ في الآفاق: (واد يا بدوي...) ثم تعتدل وتمشي إلى الجهة الأخرى وتطل في مياه الترعة، وتنادي بأعلى صوتها (واد يا بدوي...) ظلَّت عينايَ تتابعها جيئة وذهابا إلى طرفي الكوبري، عشرات المرات، وأتعجب لأن أخي وصديقه في وادٍ آخر يتسامران كأنهما لا يريان ولا يسمعان ما أسمع، لم أعلِّق، كنت ساكتا مكتوما، استرحنا وانصرفنا، ولم أجرؤ على أن ألتفت خلفي لرؤية السيدة، وهي لم تنظر إلينا مُطْلقًا ونحن على الكوبري...
بعد سنوات ذَكَّرْتُ أنيسًا بهذا الموقف، فقال: لم يكن على الكوبري شيء...
وددت لو أعود ابن تسع سنوات، وأقعد على الكوبري ذاته، وأرى تلك السيدة؛ لن أخاف وسأكلمها، نعم سأكلمها