قِراءة في كتاب " أثر القراءات السَّبع في تطور التفكير اللغوي" للدكتور عبد الكريم بكار – بقلم: محمد زكريا الحناوي

منقول من موقع الدكتور حماسة : 
خزانة الأديب : 


قِراءة في كتاب " أثر القراءات السَّبع في تطور التفكير اللغوي"  للدكتور عبد الكريم بكار – بقلم: محمد زكريا الحناوي




قِراءة في كتاب " أثر القراءات السَّبع في تطور التفكير اللغوي"  للدكتور عبد الكريم بكار – بقلم: محمد زكريا الحناوي

بيانات الكتاب :


اسم الكتاب: أَثرُ القراءاتِ السَّبْعِ في تَطَوُّرِ التَّفْكِيرِ اللُّغويِّ.

اسم المؤلِّف: أ. د. عبد الكَريم بن مُحمد الحَسَن بكَّار.

النسخة المقروءة: الطبعة الأولَى لدار السلام، مِصر، 1435ه/2014م.

عدد الصفْحات: 202 صفحة.

المؤلِّف في سطور:


هو أستاذ اللُّغويات ودراساتِ العَرَبية. حصل على البكالوريوس، كلية اللغة العربية-جامعة الأزهر (1393ه/1973م)، والماجستير (1395ه/1975م)، والدكتوراه (1399ه/1979م)؛ قسم “أصول اللغة” بالكلية نفسِها، عُنوانها: “الأصوات واللَّهْجات في قراءة الكِسائي”.

للــ د. عبد الكَريم مَسِيرٌ أكاديمي لُغوي طويل دام 26 عامًا؛ بدأ (1396ه/1976م) بجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم جامعة الملك خالد، وحصَّل خلالها درجة الأُستاذيّة، وبَقِيَ فيها حتى استقال (1422ه/2002م). وله من الدراسات والبحوث ما يُنَبِّئُكَ عن منهجيته ولطافة ناظره؛ فهَاكَهَا([1]).

تَمْهِيدٌ


ظل استكناهُ موقفَ النحْويين من القراءات القرآنية عبر العصور مثارَ الاستِنْبَاء والمقَادَحَة، لاسيما وإشكالياته يَعْتَورها علما “أصول النحو” و”القراءات” في آنٍ واحد، مع ما شاع عنهما من اشتباهٍ وتجاذُر؛ يقضي بسلطوية كل منهما على الآخر! ولتُسائِلْ نفسكَ مثلًا: أيجب أن توافِقَ القراءةُ وجهًا في العربية كي تَصحَّ أم يصحُّ الوجهُ من العربية بموافقته القراءة؟!

ومألوف لنا استذكار ابن مجاهد (ت:324ه) وكتابه “السبعة” في الدرس القرائي، إلا أن الدهش كان في الإلفات إلى آثارٍ لعمل ابن مجاهد على الدرس النحْوي وأصول النحاة! فبعد أن كانت القراءة القرآنية بنظر نحاة القرون الثلاثة الأولى وسلوكِهم نصًا من النصوص العربية؛ يُحتجُّ له، ويَخْضَع لكل أشكال النقد من القبول والترجيح والتضعيف والرد، وبل والتأثيم لمن قرأ بها في بعض الأحيان، أصبحت القراءات السبع بصورة خاصة موسومة بالصحة والقبول؛ يُحْتَجُّ بها ويُقَعَّدُ عليها، وتَثْبتُ منها فصاحة الكلمات وبلاغة التراكيب من العربية كلَّ ثبوت.

لكن ما مدى هذا التحول في النظر الأصولي للنحاة؟؛ أكان إجرائيًّا فنيًّا أم نوعيًا معياريًا؟، وما تَشَكُّلاته وآثاره؟ ثم كيف لنا أن نتَتَبَّعَ هذه الآثار، وما بلغته من شِعَاب الدرس النحْوي؛ أصولًا وفروعًا، تنظيرًا وتطبيقًا؟، وهل تُعدّ آثارًا إيجابية أم سلبية؟! وفوق كل هذا: كيف تَعَامَل النحاةُ بعد هذه التحولات مع تقعيدات متقدِّمِيهم وتطبيقاتهم؛ توفيقًا وتكييفًا أو تعقُّبًا واستدراكًا؟

جميعُ ذلك جَعَل فترة ما بعد ابن مجاهد حقيقةً بالدَّرس والمطَارحة؛ إذ قيمة البحث إنما تَتَحَدَّدُ بقيمة إشكاله المعرفي أساسًا. وربما كان كتابنا _الذي نعرض له_ هو الدراسة الأولى التي أَفْرَدت لهذه الفترة المساحةَ وخَطَتْ لمقاربتها الطريقَ؛ فهل وُفِّق الباحثُ في تسييق إشكاله، وتسلسل معالجاته، وترابط أفكاره؟! هذا ما نحاول الإبانة عنه بهذه القراءة.

انْتَهَج المؤِّلفُ المسلكَ الوظيفيَّ المتفرعَ عن المنهج الحواري، وطَبَعَ عليه بحثه، ووَظَّفَ المناهج الأخرى تتميما لِمَهَمَّته.

محتويات الكِتاب


احتشد المؤلِّفُ أولَ كتابه عددًا من الإشارات لتهيِئَة خلفيّةٍ تعريفيّة بالقراءات السبع؛ نشأتِها، وتَطَوُّرِ نظر النحاة إليها قُبَيْلَ سَرْدِه وتَعْدَادِه ما تَرَصَّدَه مِن صُنْعِ القراءاتِ السبع بالعقل الجَمْعِيّ للنحاة، وما ساهمتْ به في تطويرِ الفِكرِ اللُّغوي.

واستفتح بمقدِّمة عَرَضَ فيها لاستشكالِه تباينَ مواقف النحويين من القراءات وما اشتجر فيه القولُ عند السابقين من مُتعلَّقات هذه المعارف، ثم خروجه بنتيجةٍ تَحْكِي مرورَ نظرة النحاة للقراءات بمرحلتين: الأولى تعاملهم معها كنصٍ من نصوص العربية يخضع لكل أشكال النقدَيْن الروائِيّ والدِّرَائِيّ، وهي مرحلةٌ بدأت بالانسحاب أواخرَ القرن الرابع الهجري. والثانية: تَغَيُّر النظرة للقراءات السبع خاصةً والقرنَ الخامسَ الهجريَّ؛ ذلك بإنجاز أبي بكر بن مجاهدٍ (ت324ه) كتابه (السَّبْعة) نهايةَ القرن الثالث الهجري، وتَلَقِّي علمه بالقبول، صارت القراءاتُ السبع بعده مُنفرِدةً بالصحة والقبول؛ يَحْتَجُّ بها النحويون بعد أن كانوا يَحْتَجُّون لها.([2])

ونَصَّ على أن بحثه هذا يُعْنَى بالمرحلة الثانية؛ مُتَتَبِّعًا تأثيرَ هذه النَّقْلَةِ الإدْرَاكِيّة للنُحاة وقوتِها الفاعِلة في بِنْيَوِيّة الدرْس اللُّغوي عامة؛ إذ أضحت السَّبْعُ أحدَ موارد الاجتهاد والاستدلال في العربية، وقَسِيمًا لأدلة النحو الأخرى. كما فَرَقَ بين (القرآن) و(القراءة)؛ تأسيسًا مَفَاهِيميًّا لِما يترتب عليه من تحرير بعض المسائل المشْكِلة.

ثم شرع في تبْيِين سُلوك متأخري النحاة بعد اشتهار السَّبْع والثقةِ بها، وجاء في تَعْدَادِه هذه الظواهرَ بمثَالَيْن فأكثر لكل نموذج فَرْعِي، وكان منها: تَطَوُّر بعض المصطلحات النحْوية إلى المرونة والسماحة بعد الأحكام الحَدِّيَّة، والخروج على النَّحْوَيْن البصري والكوفي ثم إباحة ما حَظَره المتقدمون من الاستعمالات اللغوية غالبًا، والاستكثار من صور التأويل النحوي كنوع من الاستدراك على عمل الأوائل، والتَّسَمُّح بقَبول اللَّهْجات والتفاعل مع الأطر المرنة للعربية كمظهر إنساني اجتماعي، وتوسيع مجالات تطبيق العلة النحوية، وغيرها. وختم بذكر أهم النتائج، مع الفهارس.

هدف الكتاب:


تَتَبُّعُ تأثير عمل ابن مجاهد (السبعة) في تجديد مسالِك النُّحاة وبِنْيَوِيَّةِ عِلم النحْو، وتسليطُ الأضواء على المرحلة الثانية من تعامل النحْويين مع القراءات عامةً والسبع خاصةً، ومَظَاهر ذلكم، ودلائله، وشواهده.

الإشكالات الرئيسة للكتاب:


يُعَدُّ تتبُّع الآثار الناجمة عن تَحَوُّل النظرة المعيارية للنحاة بعد قبول المسلمين لعمل ابن مجاهد في كتابه “السبعة” هو الهدف الأساس للكتاب، ونحاول تفكيك معالجة المؤلِّف وتلمُّس سرديته فيما يأتي:

تخلّق هَمُّ المباحثة ابتداءً عند المؤلف من ملاحظة تباين مواقف النحويين واللغويين من القراءات، ودَفَعَه التأمُّل الأوَّلِيّ في شواهد ذلك وموادِّه إلى ملاحظة مرور نظرة النحاة للقراءات بمرحلتين، فيما سبق بيانُه.

وقد انتهض المؤلِّفُ للوقوف على عدد كبير حقًا من الآثار؛ مما أظهر ما كان لعمل ابن مجاهد من سلطة ومساهمة في تحقيق نقلة نوعية معيارية في إدراك النحويين وعقلهم الجمعي على مستويات عدة؛ لم يَكُ تأثيرًا إجرائيًا أو فنيًا.

ويبين المؤلف بسرده للآثار كيف أحسَّ مشاهيرُ متأخري النحاة وبعضُ من جاء في المرحلة الوسيطة أن مصدرا مهما من مصادر الاحتجاج والاستشهاد في اللغة لم يوضع في نصابه، ويُريكَ كيف نضج هذا الإحساس خصوصا في القرن الخامس وما بعده، وتحولت على مدى الأيام أفكارٌ جزئيةٌ وملاحظاتٌ عابرة إلى مفاهيم ثابتة شكّلت ملامح رؤية جديدة لعمل السابقين في تقنين اللغة وتوصيفها، ويسوق الشواهد على ذلك من نصوص النحاة وتطبيقاتهم؛ ناصًّا على تواريخ وفياتهم بما يمثِّل لك مسير الآثار المرصودة خلال القرون المتوالية([3]).

واضطر المؤلِّف إلى استعراض أقوال المتقدمين، مؤسسِي الدرس اللغوي، وإشراك القاريء معه في تصُّور ملابسات النشأة وعواملها، وهو ما بَلْوَرَ بدوره مواقفهم من القراءات وجَعَلَها مشروعةً حينها. وما يعنينا منها في خدمة هدفنا هو أهمية الإلمام بها في إدراك مقادير التحوّل بين (قبل وبعد) السبع، فبالمقارنة يتضاعف إبراز الفوارق.

وينحكم لنا جمع صور التأثير في عدة مستويات؛ أرخت عليها السبعُ ظلالها الوافرة بما كان أوفق للظاهرة اللغوية:

أصول النحو (السماع، القياس، العلة النحْوية)([4])

لم يقتصر أثر القراءات السبع على أفراد المسائل النحوية، وإنما وقع تحولٌّ معياري في أصول النحو وأدلته الكُلِّية الإجمالية، فقد انضافت القراءات السبع أحد موارد الاجتهاد والاستدلال في العربية، وكان لهذا أثره في بقية أدلة النحو الأخرى؛ حيث صارت القراءات السبع قسيمًا لها؛ فجرى بين هذه وتلك من التزاحم والتحارج ما جرت العادة به بين الخلطاء، وبيّن المؤلِّف كيف يلجأ المتأخرون في سياق الدفاع عن القراءة والتقعيد عليها إلى بسط القياس تارة، وقد يلجأ إلى قبضه وتعزيز مكانة السماع أخرى، وقد يزاوجون بين هذا وذاك، أو يدفعون قياسا بآخر، .. إلخ.

أما السماع والقياس: استعرض بالشواهد كيف ساهمت السبعُ في توسيع مدارك المفكِّر اللغوي وفسْح أمداء السماع ووجوه تصرفه وترشيد القياس وتخفيف حدته، خلافا لما كان عليه مشاهيرٌ من المتقدمين، وهو ما يخالف طبيعة اللغة كعرف اجتماعي تتكون تدرُّجا، وتظل في حال من النمو والتشكّل المستمر. وذلك لأن القراءات السبع تمثل نصوصا سماعية وثيقة، وفي أحيان قليلة كان تأثير السبع في بسط القياس، وذلك حين يوافق السبعية، ويصاحبه نوع قبض لنوع من السماع حين يعارضها.

كما وجد المتأخرون أنفسهم في حاجة إلى تدعيم بعض السبع بالشواهد، ولم يجدوا إلا بعض الشواهد الشعرية التي كان كثير من المتقدمين يرى أنها لا يحتج بها على النثر؛ لكونها موضع ضرورة الشاعر! وهو أحد صور المرونة التي أحدثتها القراءات بكسر حدة القياس، والاستغناء عنه بالسماع؛ ذلك بتحويل كثير من الشواهد من نطاق “الضرورة” إلى نطاق “الاحتجاج”. كذا توسعوا في عقد الشبه بين المقيس والمقيس عليه.

ومنه: التسمُّح بقبول اللهْجات؛ فطائفة منها حكم عليها المتقدمون بعدم الفصاحة أو القلة، وردُّوها وضعفوها، ثم انتهى المتأخرون إلى فصاحتها وعدم تشذيذها، كما اعتبر كثير من المتقدمين اللهجات التي ورد استعمالها في الشعر من باب الضرورة، على حين عدّها المتأخرون لغة لقوم ينبغي اعتبارها؛ ولو وردت في شعر.

وأما التعليل؛ وكان تأثير السبع في العلة النحوية على نحوٍ مقارب لتأثيره في القياس حيث أدت إلي بسط العلة النحوية؛ لتحتل مساحة أوسع بين عوامل التوجيه اللغوي، ولم يكن تأثير السبع واضحا في إيجاد علل جديدة، وإنما في فسح المساحات التي يمكن تطبيق العلة فيها، وفي مواضع أخرى من النظام اللغوي كان تأثيرها ملموسا في حسر العلة النحوية، وذلك حين تصطدم مع القراءة السبعية؛ فيصير المتأخرون إلى غض الطرف عن العلة اللغوية، والصيرورة إلى ما توجبه القراءة.

مدرستا البصرة والكوفة


ويرى المؤلف أن أثر السبع كان في التخفيف من الغلو في التقديس والمتابعة لرموز المدرستين، خصوصا البصرية وإمامها سيبويه، مما دفع إلى الخروج على المدرسة البصرية استجابةً للقراءة السبعية بمتابعة التوجهات الفردية في المدرسة نفسها، أو بالميل إلى المدرسة الكوفية التي قضى منهجها العام بالمرونة حيال الأخذ بالشواهد بصورة مطلقة، أو بقَصْد مذهب ثالث تابعوه، أو ابتدعوه.

المستوى القاعدي والتأويل النحوي


في رسم طريق جديد للقاعدة النحوية تمثل جنوحها نحو المرونة في مواضع غير قليلة، فصحح المتأخرون بعض الأساليب التي حظرها المتقدمون، أو حكموا عليها بالضعف.

كما أنها كانت أكبر العوامل في تعميق خطوط التأويل النحْوي وتوسيع دوائره عند المتأخرين؛ حيث يفرض تفرد السبع بالصحة بين القراءات مراجعة القواعد النحوية بصورة من الصور لتستوعب ما كانت قد ضاقت عنه في سابق الأوان. حيث يحتاج توجيه بعض القراءات التي تخالف ظاهر العربية البينة المطردة إلى التنقيب عن قواعد أخرى توائمها تكون عادة أقل ثبوتا أو أقل شهرة، أو تكون موضع خلاف بين النحاة.

المستوى المصطلحي


كان أثر السبع في هذه المصطلحات الغامضة تطويرها من الأحكام الحادة نحو المرونة والتخفف مما يتناسب مع طبيعة اللغة إلى حد كبير، والاتساع في مدلولاتها بما يفسح المجال لما تقضي به السبعية من تعديلات للقاعدة النحوية، وهو ما كان أوفق لمرونة الأطر اللغوية وأقرب للمنهج الوصفي الذي يجب اتباعه في بحث الظاهرة اللغوية.

الموقف من المتقدمين


ويستظهر المؤلف في ذلك كله كيف ازدادت شقة الخلاف بين المتقدِّم والمتأخر؛ فيتواضع الأسلافُ؛ بصريون وكوفيون طِيلةَ ستة قرون على شيء، ثم يقرر المتأخِّرُ أنها “أقوالٌ لا ينبغي أن يُلتَفَتَ إليها لأنها طَعْنٌ في المتواتر!، وإن كانت صادرةً عن أئمة أكابر، وأيضًا قد انتصر لها مَن يقابلهم”اهـ. كلام السَّمين (الدر المصون 5/166) وفي هذا الشاهد تَدَرَّجَ الموقفُ النحْويُّ من “التلحين ورفض بناء القاعدة على القراءة” إلى “التأويل”، ثم “التجويز والحكم بالقلة أو الندرة”، والقليل فصيح، بل تَجَاوَزَ ذلك في مواضع إلى تقرير مَزِيَّةٍ للقراءة المنتقدَة/المردودة ليست موجودة في الأخرى المرجَّحَة/المخْتَارَة. ويُلَاحظ أن تأثير القراءة السبعية في تطور الموقف النحوي لم يقتصر على المراحل الزمنية وحسب، بل أثَّر في موقف الشخص الواحد بين المتن والشرح! (كتابنا المقروء ص:37، مثال إدغام الراء في اللام).

ولا يُستغرب في تحولات الفكر الإنساني -وتراه فيما ساقه المؤلف من شواهد- كيف كانوا يُحَكِّمُون القاعدة النحوية في قراءة غير سبعية ولكنهم لا يُحَكِّمُونها في السبعية والظاهرة واحدة!، بل قد يختلف موقفُ النحويِّ من القراءة السبعية الواحدة إذا وردت في موضعين مختلفين. وهذا كله بسبب تأرجحهم بين تأثير القراءة وتأثير القاعدة النحوية التي وُضِعَتْ دون أخذ اعتبار مناسب للقراءة السبعية في بعض الأحيان.

وانتهى البحث إلى أن تأثير القراءات السبع في تطوير التفكير اللغوي كان إيجابيا؛ حيث شكَّلَه على نحو جديد يبتعد عن العصبية المذهبية وآثار الثقافة اللغوية المحدودة التي تحتم السير في اتجاه واحد لأن تقديس آراء الأشخاص وغض الطرف عن النصوص الثابتة، ليس من أمارات الرشد الفكري ولا الاجتماعي، ولا هو يوافق طبيعة اللغة من النمو وديمومة التشكل بحسب العصور والبيئات وتصرفات حامليها، بقطع النظر عما يقع من هذا الاتجاه الجديد من تقصير في التطبيق أو التعليل.

أبرز مزايا الكتاب


  • هذا البحث هو الأول في موضوعه -فيما أعلم-، وأعدُّ فوق هذا أبرز المزايا:
أ ـ  المنهجية:

  1.  قيامه استقلالًا على تَاريخ الأفكار ومؤثرات تحولاتها، ومسارات العلوم وعلائق التأثير بينها؛ يَقْصِد إلى “الكليّ” قبل “الجزئيّ”، و”الأصلِ” قبل “الفرعِ”، وهذه وحدها تكسبه القيمة!، وهو مما نفتقر التنبه إليه في مجتمعنا المعرفي عربيًا.
  2.  غِنَاه بالمادة التحليلية والنقدية، مع كثرة الأمثلة والشواهد، وتقديمه نموذجًا جيدًا في البحث والتحقيق.
  3.   تجريده المناقشات عن المذهبية (الأيديولوجيا)، والخطابية الانفِعَالِيَّة، واللتين عُهِدَتَا وسمًا لكتابات “قدسية” العربية و”معيارية” قاعديتها منذ خمسينات القرن الماضي، وانصرافه مرارًا عن ذاك إلى تَلَمُّس دوافع الأطراف المتخالفة ومنابع اختياراتهم البحثية؛ متقدِّمًا كان أو متأخِّرًا أو معاصِرًا.
  4.  تَنْويِع أجناس الحُجج في التدليل على غرض البحث الأَسَاس، ويكتسب هذا المسلكُ مَيْزَتَه نسبيًا مع كونه البحث الأول في تلك المسألة البيّنيّة؛ مما يقضِي بطول النَّفَسِ في المحاورة والمعالجة، مع المغايرة بين الأمثلة لِتَنْحَكِمَ الفكرةُ -قدر الإمكان-.
  5. تَجَلِّي آثار إلمام المؤلف بالعلوم الإنسانية وخصائصها وطبيعة منهاهجا طيلة معالجته قضايا البحث وتعاطِيه وأقوالَ العلماء عبر القرون، وذلك ما يَلزم إخضاعُ مسائل اللغات له خاصة، وهو ما يُحْرَمُه عامةُ الباحثين والدراسين للعربية اليوم؛ والذين يتعاملون مع العربية تعاملهم مع النص المقدَّس!
  6. تعدُّد الـمَنَازِع التي يُنَاقِشُ بها المسألةَ لاسيما المشكِلة، وهو مقتَضَى البحث والتحقيق، فإذا كانت المسألة يتنازعها النحو وأصوله والقراءات والرسم وشيءٌ من سَنن النفوس والاجتماع؛ وجدتَ ذلك حاضرًا جميعه في مادته وتحليله، بينما ترى هذه المسائل فيما هنالك تُعَالَجُ بأحادية، وربما هذا ما يجعلها مشكِلةً ابتداءً مع تتابع الدارسين على ذلك.

ب ـ  الفنِّيَّة : 
  1.  اطّراد نَسَق البحث بطُولِه في الإجمالِ والتفصيلِ، والتدليلِ والتمثيلِ، والعَزْوِ والتوثيقِ.
حسن التبويب والتقسيم، وتوظيف الترقيم وجدولة المعلومات، مع لُجْئِهِ غالبًا إلى مَزْجِ النقول الموثَّقَة بسبك كلامه وعدم الفصل بينهما، وإلا أَرْهَقَ القاريءَ مع هذا الكم الوافر من النقل والعزو.

أهم الملاحظات

  1. يُؤخذ على الكتاب اتساع نطاق البحث؛ إذ -بحسب نصِّ المؤلِّف- فإنه تَتَبَّع النحاة بعد ابن مجاهد إلى عصرنا هذا، وهو نطاق ممتد جدًا، فهل وقع تتبع تلك الحقبة التاريخية الطويلة بوفاء، ورَصْدِ آثار النظر المنهجي المتأخِّر إلى القراءات بتمام؟!، ربما! ويرتبط به -أيضا- عدم وضع المؤلف مقياسا لما نعتبر به الموقف المتأخِّر أثرًا عامًّا وما ليس كذلك؟؛ إذ إطلاق الاعتبار أن الآثار التي أوردها تمثِّل الاتجاه العام للنحويين ولو خالفها بعضهم ولم يسايرها= يحتاج التأني أو الحديث عن مدى معياريته، لاسيما وقد تكررت أسماء بعينها في كثير من الآثار كأبي حيان والسمين الحلبي وابن هشام.
  2.  المقدمات مختصَرَة؛ لا تفي بحجم البحث واتساع نطاقه، وكان في مزيد تسييق منطلقاته وإبراز منهاجه في المعالجة وآلياتها مزيد ضبط لمسيرته؛ إذ يلاحظ تردد المؤلف بين حين وآخر إلى استحضار ما قبل ابن مجاهد، وهو ما شغل مساحة كان الأولى -بنظري- ملؤُها بمزيدٍ من بلورة الآثار وحدودها.
  3.  يُلاحظ على طريقة المؤلِّف الاختصار في تناول عدد من الآثار، وعدم الإفاضة في تتبع المسألة أو تعداد مظاهرها، ولا يتناسب ذلك والموضوعاتِ المشكِلةَ عويصةَ التداخل، ومن ذلك تناوله لأثر القراءات على المصطلحات (ص 30 : 41)، فقد كان الأولى أن يبسط المؤلِّف في بيان طبيعة المصطلحات النحوية التي أوردها، وطبيعة الأحكام الصادرة من اللغويين تجاهها، ومدى ارتباطها بطبيعة نظرتهم لهذه المصطلحات أولا، ثم يبين اختلاف الأحكام بين الفريقين في الحكم على القراءات، ومن ثَمَّ يمكن له الاستنباطُ؛ قطعا بحدوث تغيُّر دلالي في مفهومها، النظر عن تحريرها والذي قد لا يَلْزَمُه؛ إذ من شأن البسط أن يُوقِف القاريء على حقيقة التغيرات التي جدّت ومدى قوتها أو ضعفها، وكذلك في تناوله أثر القراءات على مرونة القاعدة اللغوية (ص 76 : 86).
  4.  يُستشكل نَصُّه على “ثلاث” نتائج رئيسة تتعلق بـ(المصطلحات) بعد تغير نظرة النحاة إلى القراءات السبع، ثم لم يذكر المؤلِّف سوى اثنين منها فقط (ص 33 : 41)؛ فليُراجع في الطبْعات القابلة
  5.  يُساءَل المؤلفُ في تسمية كتابه “أثر القراءات السبع في تطور التفكير اللغوي”، ثم انصباب تناوله على المنحى النحْوي، وكأنه قصد ببحثه النُّحاة، واللغة أوسع من النحو؛ إذ يشكل مع الصرف والبلاغة وغيرها بعض أفرادها لاسيما عند المتوسطين والمتأخرين الذين تتبع الكتابُ سلوكهم، فهل كانت التسمية بـ(التفكير النحْوي) أصدق وأدلّ على المضمون؟
  6.  البحث في معيار اعتبار تأثيرات العلوم بعضها في بعض، وتحولاتها بين المتقدمين والمتأخرين تطوُّرًا إيجابيا محمودا أو لا، وفيه تتميم لكتابنا هذا؛ إذ انتهى المؤلف في اعتبار التطور الحاصل من جراء تأثير القراءات السبعة على الفكر اللغوي تطورا إيجابيا، واكتفى في تبرير جودته وتسويغها بإشارة معتصرة جدا لمناسبته اللغة وطبيعتها وطبيعة جمعها، وهو ما لا يكفي؛ فالحكم على هذا التطور بأنه إيجابي حكم كبير، لاسيما وهو يحمل في طياته تخطئة لكثير من المتقدمين، مع ما للمسألة من امتدادات عدة في التفسير، والقراءات، واللغة.
  7. يؤخذ على المؤلف وصف بعض اللغويين الأوائل بضيق العَطَن، وهو تجاوزٌ لحقيقة ما كانت عليه الأمور عندهم من مشروعية الاختيار واستساغة المجتمع المعرفي له، بل تجاوزٌ لما قرره هو من عدم تفرّد اللغويين بذلك.

الخاتمة:

هذي إضاءات بانورامية لبحث قيّم؛ حاولتُ التعريف بأهم إشكالاته وأفكاره، وناقشتُ شيئا من معالجاته، غير أنه يثير في المشتغلين بالمعرفة:

  1. ضرورة المراكمة لدراسات إبستيمُولُوجية ومصطلحية للموروث التراثي العربي؛ تحريرًا للكثير من المقولات التي أشاعتها توجهات أيديولوجية وهيّأ لها الظرف الكولونيالي أجواء حاضنة وتأويلات عَجِلَة.
  2. إعادة تسليط الأضواء على الإشكال الذي حاول كتابُنا معالَجته، ولكن بصورة تجزيئية تكون أدقَّ دلائلَ ونتائج؛ ذلك بقيام أبحاث ذي محدِّدات مقيسة سواء بأعلام العلماء ونتاجاتهم، أو بفترات زمنية محددة لا ممتدة، ثم جمع مُسْتَخَلَصَاتِها لتحريرٍ أدق، يليه تقعيدٌ وتجديدٌ في المنهاج النحوي.
  3.  مُعاودة النظر في التأريخ للنحو العربي بالمدارس والبلدان، ومُبَاحثة الدعوة إلى التأريخ باعتبارت أخرى؛ ربما تكون أدقّ وأصدق([5]).
  4.  إفراد مسائل مِنهاجية ذُكِرَت عَرَضًا ضمن كتابنا بالبحث الموضوعي، ومثالها: ضَرْب عامة المتأخرين على تقرير المتقدمين كافة في المسألة والإتيان بالنقيض، مِن مثل الفصل بين المضاف والمضاف إليه في النثر ص 52:50، وموقع ذلك -كشاهدٍ في تراثنا العربي- من جدلية المتقدمين والمتأخرين.


([1]) الدراسات والبحوث اللغوية المتخصصة، مُرتبةً حسب الصُّدور:


1ـ "أُصولُ توجيهِ القراءاتِ ومذاهبُ النحويين فيها حتى نهاية القرن الرابع الهجري"، بحثٌ غير منشور 1404هـ/1984م.

2 ـ  "ابنُ مُجاهد؛ شيخ قُرَّاء بَغداد"، مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، القصيم 1404هـ/1984م.

3_ تحقيقُ كتاب  "القواعد والإشارات في أُصول القراءات"  للقاضِي أحمدِ بنِ عمرَ الحَمَوِيّ، دار القلم، دمشق 1406هـ/1986م.

4 ـ  "الصَّفْوةُ من القواعد الإعرابية" ، دار القلم، دمشق 1407هـ/1987م.

5ـ  تحقيقُ كتاب "ردّ الانتقادِ علَى الشافعيِّ في اللغة "  للإمام البَيْهَقِيّ، دار البخاري، بُريدة 1407هـ/1987م.

6 ـ "أَثَرُ القراءاتِ السَّبْعِ في تَطَوُّرِ التفكير اللُّغويِّ"، وهو كتابُنا الذي نَعْرِضُ له، دار القلم، دمشق 1410هـ/1990م.

7ـ " المهْدَوِيُّ ومنهجُهُ في كتابه (الموَضِّح)" ، دار القلم، دمشق 1411هـ/1991م.

8 ـ "اِبنُ عَباسٍ؛ مؤسِّسُ علوم العربية" ، دار السوادي، جدة 1411ه/1991م.

9 ـ  " دراسةٌ لإنشاء مركز لتعليم اللغة العربية " ، كلية اللغة العربية، أبها 1413هـ/1993.


([2]) واصطلح على تقسيم النحاة بالنسبة لقضايا القراءات السبع إلى:


 (متقدمين) يمثلهم علماءُ القرون الثلاثة الأولى، و(متوسطين) وهم علماء القرن الرابع والخامس والسادس؛ وهي ما استغرقته فكرةُ الاحتجاج بالسبع في التقعيد اللغوي حتى تهيمن على العقل الجمعي للنحاة، وإنْ وقعت لها الشهرة في الرابع، و(متأخرين) وهم علماء القرن السابع ومَنْ جَاءَ بعدهم.

([3]) ومثاله: ما رواه ابن ذكوان عن ابن عامر في قوله تعالى: ﴿قالوا أَرجِه وَأَخاهُ﴾ أنه قرأ: ﴿أرجئهِ﴾، ومرور هذه القراءة بمراحل انتقالية: من المنع وعدم التجويز (ابن خالويه ت370ه، أبي علي الفارسي ت377ه، ابن أبي الربيع ت688ه) إلى الوصف بالضعف (العُكْبَري ت616ه)، ثم من المتأخرين من لا يرضَى وصفَها باللحن _ولا بالضعف؛ الذي هو مصطلح مخفف من اللحن والوهن_ (أبو حيان ت745ه)، ثم يبلغ التطور ذروته عند (السمين الحلبي ت756ه، وانظره: الدر المصون 5/410) حيث يعد توجيه بعض النحويين لهذه الرواية نوعًا من التَّنَزُّل أو نوعًا من الملاطفة للنحاة؛ وإلا فالقراءة الثابتة ليست بحاجة إلى توجيهٍ!

([4]) يُراجع: “فيض نشر الانشراح من روض طي الاقتراح” للإمام اللغوي المحدِّث ابن الطيب الفاسي، “أصول النحو عند ابن مالك” د. خالد سعد شعبان، “اللغة بين المعيارية والوصفية” د. تمام حسان، “الأصول؛ دراسة إبستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب”، له، وهما مع كتابنا أفضل ما كُتِبَ –بنظري- مادة وتحليلا، وأكثره انضباطا وتحريرا، ولا زالت الحاجة مُلِحّة لجهود الباحثين والدراسين هاهنا.

([5]) انظر: “تطور الدرس النحوي”، د. حسن عون، و”المدارس النحوية؛ أسطورة وواقع”، د. إبراهيم السامرائي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products