الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يكتب : من قلب دسيا الحلقة (41)

خزانة الأديب :
 الشاعر الكبير إيهاب عبد السلام
الحلقة (41) من قلب قرية دسيا

دخل الأستاذ أبو الفتوح الفصل غاضبًا، كيفَ وهو التربوي المختصّ يُوكَل إليه فصل أولى ابتدائي، بينما غير التربويين يناط بهم من الثاني إلى السادس الابتدائي..؟!
كان الأستاذ أبو الفتوح قد انضمَّ إلى (مدرسة الشيخ علي الابتدائية) بعد بداية الدراسة بأسبوعين، وقد توزَّعت الفصول، ولم يُرِد الناظر الأستاذ (عزيز مينا بطرس) أن يُحْرِجَ أحدًا فيسحب منه فصلا أعلى من أجل الأستاذ أبي الفتوح، ففي ذلك إهانة تحط من قَدْرِ المعلم مهما كانت دراسته. لم يجد الناظر بُدًّا من أن يكلف الأستاذ أبا الفتوح بالتدريس للصف الأول الابتدائي، ورغم أنني كنت من تلاميذ ذلك الصف، وفي تلك السن، فقد كنت مُدْرِكًا ما يدور أمَامَنَا.
دخل الناظر فصلنا يسترضي الأستاذ أبا الفتوح، وكأني به يقول له: أيهما أفضل؛ أن أعطيك كراسة بيضاء نظيفة تكتبها بخطك وأسلوبك، أم أعطيك كراسة ملأها غيرك بشخبطاته، ثم أطلب منك أن تسلمها لي مكتوبة كأفضل ما يكون..؟! ثم أردف قائلا له: ولك عليَّ أن تظلَّ معهم إلى الصف السادس. تسلَّمْهُم صفحةً بيضاء وشكِّلْهم بنفسك.
كان هذا الوعد الأخير مقنعًا ليبتسم الأستاذ أبو الفتوح ويتجه إلينا بقلبه قبل عقله، معلمًا عظيمًا، وأخًا كبيرًا، وأبًا رحيمًا. وإني إذ أتذكر ذلك الموقف العابر الآن، أظنه ملهمًا لفكرة قد يكون من شأنها حل جانب كبير من المشكلة التعليمية، فنسلم لكل معلم (ثانوية عامة) طائفة من تلاميذ الصف الأول الابتدائي يتولى التدريس لهم دون سواهم حتى الثانوية العامة، ولو أحسن تعليم مئتي نَفْسٍ في حياته كلها لكفاه، ولنا أن نحاسبه على مستواهم حساب المَلَكَيْنِ إذ لا عُذْرَ له. يعني بالبلدي كما يقول العوام: (نِسَلِّمُه نضِيف ونِسْتِلِمْ مِنُّه نضِيف).
لمدرسة الشيخ علي في ذلك الزمان حميمية لا أظنها تتكرر لأي مدرسة، فقد ظلت القُرَى إلى أوائل الستينيات دون مدارس، وفجأة قررت مصر أن تحقق على أرض الواقع مقولة التعليم كالماء والهواء، ولم تنتظر وزارة المعارف بناء مدارس، فكان الإمْكَان مقدَّمًا على المكان، فاكتفت بتأجير منزل من أحد الوجهاء وجعلته مدرسة، ست حجرات تفتح على صالة واسعة، وله براندة. خُصِّصَتِ الحجرات الأربعة الواسعة للفصول، وحجرة للناظر، وحجرة مخزن. وفي الصالة وُضِعَتْ طاولة اجتماعات كبيرة. وكانت المكتبة عبارة عن دولاب كبير في حجرة الناظر، يتولَّى أحد المدرسين أمانتها، ونظرًا لقلة الفصول فكانت الدراسة على فترتين. لا سور يحيط بالمدرسة، وما حاجتنا إلى السور..؟ أما طابور الصباح فكانَ في الجُرْنِ المجاور للمدرسة على مرأى ومسمع من أهل القرية أجمعين كأنه مسرح مفتوح.
كانت (مدرسة الشيخ علي) على وضعها هذا تغطي حاجة ما يقرب من عشر قرى كاملة، وكانت كافية لأبناء تلك القرى، فلم يكونوا يملأون سوى فصل واحد فقط في كل صف.
ومن العجيب أن المدارس لم تدخل القرى إلا في أوائل الستينيات، والكهرباء تأخرت إلى أواخر السبعينيات، ورغم ذلك لم تتأخر المكتبة، فقد سبقت المدارس والكهرباء إلى منزلنا في قلب دسيا، فنشأتُ وجدت في منزلنا مكتبة ليست صغيرة، بها عديد من الكتب المهمَّة.
لم يكن في الحياة ما يشغلني عن القراءة، وكانت مشاركتي للأطفال في ألعابهم الجماعية قليلة جدًّا، وتلك الألعاب لا تكون إلا في الليل وفي الليالي القمرية دون سواها، ولم تكن أسرتي من المزارعين فأنشغل بالحقل، كان يومي كله ملكي فقرأت أغلب ما كان في تلك المكتبة، وأذكر منها بجانب الكتب الدينية كتابين شُغِفت بهما طول المرحلة الابتدائية؛ أما الأول فهو: (المحفوظات والمسرحيات المقرر على الصف الخامس الابتدائي عام 1954) وأما الآخر فهو: (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر لأبي منصور الثعالبي تحقيق إيليا الحاوي).
أما الكتاب الأول فحفظته حفظًا لسهولته وجمال ما به من قصائد اختيرت بعناية فائقة، ولا أزال أحفظ أغلبها، منها قصيدة (الضيف الثقيل) وفيها:
لَا تَكُنْ ضَيْفًا ثَقِيلًا ** يَكْرَهُ النَّاسُ لِقَاءَكْ
لَا تَكُنْ عِبْئًا عَلَيْهِمْ ** لَا تُحَمِّلْهُمْ عَنَاءَكْ
وَفي آخِرِهَا:
رُبَّ مَنْ يَلْقَاكَ رَحْبًا ** كَسَرَ الزِّيرَ وَرَاءَكْ
كم كنت مولعًا بهذه الصورة الأخيرة، وما بها من دعابة.
أما (يتيمة الدهر) للثعالبي فكانت في أجزاء كثيرة، كل جزء تقريبا 100 صفحة، وكان في مكتبتنا منها عشرات الأجزاء، قرأتها جميعا في آخر المرحلة الابتدائية، وشُغِفت بها أيما شَغَفٍ، ولا أدري من الذي استجلبها إلى بيتنا في ذلك الوقت من الزمان حيث لا مدارس ولا حتى كهرباء، أهو جدي أم أبي أم أخي..؟! وفي المرحلة الإعدادية خفت عليها من الضياع فجمعتها في مجلد كبير صنعته بنفسي.
ولا أزال أحفظ قصائد كاملة، وأبياتا، وتعليقات للثعالبي قرأتها آنذاك في يتيمة الدهر، منها قول المتنبي:
أيَّ مَحَلٍّ أرْتَقِي ** أيَّ عَظِيمٍ أتَّقِي
وُكُلُّ مَا قَدْ خَلَقَ اللهُ وَمَا لَمْ يَخْلُقِ
مُحْتَقَرٌ في هِمَّتِي ** كَشَعْرَةٍ في مَفْرِقِي
أتذكر أنني عندما قرأت تعليق العلَّامَة الثعالبي على هذه الأبيات كنت مُتَّكِأً فجلستُ، ثم أعدتُ قراءتها جالسًا فوقفتُ، وأخذتُ أكررها مشدوهًا من جمالها... قال الثعالبي معلقًا: (وقبيحٌ بمن أوّله نطفة مذرة، وآخره جيبفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل بول وعذرة، أن يقول مثل هذا الكلام، الذي لا تسعه معذرة).
يا الله...! ما هذا المنطق..؟ وما هذا الجمال..؟ ومَنْ أبو منصور الثعالبي هذا..؟! (عرفتُهُ فيمَا بعد). جدير بتعليقه هذا أن يردده كل إنسان بينه وبين ونفسه؛ حتى لا ينسى أوَّلَهُ وآخِرَه. ولا يكاد يفارقني من المرحلة الابتدائية...
لم أكن محتاجًا لمعجم يفسر لي معنى (مذرة وعذرة) فالسياق يوحي بأن الأولى معناها تافهة، وأما الأخرى فعطفها على بول جعلها واضحة ومفهومة.
إنَّ ساعةً قضيتُها مُتَّكِئًا على القشِّ فوقَ سطح تلك الحجرات المخصصة للطيور خلف منزلنا، مستقبلا أشعة الشمس في نهار شتاء، مستمتعًا بالحياة كما خلقها الله، مركزا مع مولانا أبي منصور الثعالبي رضي الله عنه وأرضاه، غارقًا في جزء من أجزاء يتيمة الدهر، لا تشغلني عنه شاغلة، ألتهم في شغف سطورها ومعانيها، لَهِيَ عندي بالقاهرة، بكهاربها ولياليها، وشواغلها ومبانيها وكلّ ما فيها.
وصدق أحمد شوقي:
قَدْ يَهُونُ العُمْرُ إلَّا سَاعَةً ** وَتَهُونُ الأرْضُ إلَّا مَوْضِعَا

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Smartwatch

Random Products